نجلاء العتيبي
حين يُسلَّم الإنسان عملًا فإن ما يُمنَح له ليس مهمةً فحسبُ، إنها ثقة عظيمة تُغرَس في صدره، ومسؤولية تلامس ضميره قبل أن تلامس يديه.
فالعمل أيًّا كان نوعه هو انعكاس مباشر لصورة مَن أُنيط به؛ لذلك فإن الاعتناء به لا ينعكس فقط على اكتمال مشروع أو تسليم مهمة، وإنما يمنح الناس لحظةَ فخرٍ حقيقيةً تجعلهم يشاهدون بأعينهم كيف يخلق الإخلاص في التنفيذ واقعًا مشرفًا؛ فما يُبنى بعناية يتحوَّل إلى علامة مضيئة تدعو إلى الثقة، وتغرس في النفوس يقينًا بأن العزيمة تُثمِر، وأن كلَّ جهد صادق يترك أثرًا باقيًا يليق بالعطاء.
في مشهدٍ بسيطٍ على قارعة طريق، قد يُغلق مسارٌ، وتتعطَّل حركة، ويظهر للناس سطحُ الأمور: حفريات، مُعَدَّات، أنقاض، وانتظار يطول، لكن ما لا يُرى هو الأهمُّ، ما يحدث خلف الأسوار في غُرَف الاجتماعات أو دفاتر المتابعة، حيث يتحدَّد مصير العمل. مَن يقوده؟ مَن يشرف عليه؟ مَن يضع تفاصيله الصغيرة في حُسبانه؟ تلك الأسئلة تُشكِّل الفرق بين مشروع يُروى لاحقًا كقصة نجاح، وآخر يُنسَى بعد أن يترك وراءه تساؤلًا بلا إجابةٍ.
ما يحدث أحيانًا لا يكون بسبب غياب خطةٍ أو ضعف إدارة، بل نتيجة غياب المتابعة الدقيقة أو تساهُل مُنفِّذه، مَن لم يمنح العمل حقه؛ إذ لا يكفي أن تُوضَع الفكرة بعنايةٍ إذا لم تجد مَن يهتمُّ بها، ويتابع تفاصيلها، ويحرص على أن ترى النور بجودةٍ تليق بها؛ فالتأخير لا يُقاس بالوقت وحده، وإنما يُقاس بتأثيره على حياة الناس، وبصورة الجهة التي وعدت وأحسنت التخطيط لكنها احتاجت لمن يُجيد التنفيذ بمستوى الحرص والتعميد نفسه.
نحن لا نُطالب بالكمال، بل بالضمير والإخلاص، ولا نبحث عن ثقوب وعيوب، وما يُشعِر القلب بالرضا حين يرى تعثرًا مؤقتًا في مشروع هو ثقته أن خلف المشهد أياديَ تعمل بجهدٍ، وأفكار تُراجع، ومسؤولون يدركون أهمية كل تفصيلة -أعانهم الله- يتابعون؛ لتكتمل الصورة، فحين يُستشعَر حجم المسؤولية يصبح التدارك جزءًا من قوة الإدارة، ويغدو الإشراف المتقن دليلًا على أن العمل لا يُدار باجتهاداتٍ سهلةٍ، بل يُقاد بتخطيطٍ واعٍ، ورؤية واضحة شجاعة، وإن تأخَّرت بعض الخطوات؛ فإن جودة الناتج هي ما يُعوَّل عليه، والتميز هو ما يُنتظر في النهاية.
فالأمانة ليست فقط فيما يُسلَّم باليد؛ إنها فيما يُحمَل في القلب، وعندما يُؤتمَن الإنسان على عمل فإنه في الحقيقة يُختبَر في صدقه، في سعيه، في إخلاصه للغائبين قبل الحاضرين، فالذي يمرُّ دون معرفةٍ بمن يقف خلف المشروع يتجاوز الطريق، لكنه في داخله يُصدر حكمًا: هل رأى أثرًا يدلُّ على اجتهاد أم شاهَدَ نتيجةً تنطق بالإهمال؟
والشاهد في هذا كله أن كلَّ عملٍ نُسند إليه -مهما بدا صغيرًا- هو جزء من لوحة أكبر، وأن الخلل لا ينشأ من فراغ…!! فغالبًا ما يتسلَّل من تلك الزوايا التي يُظَنُّ أنها لا تُرى، ولو أن كل إنسان أدرك أن عمله أمانةٌ عظيمةٌ يُحاسَب عليها لما تهاون، ولما احتاج أحدٌ لمراقِبٍ أو تنبيهٍ.
حين يرى الناس أن الأعمال تُؤدَّى بعنايةٍ، وأن التفاصيل الصغيرة تُحتَرم كما تُحتَرم الخطط الكبرى ويترسَّخ اليقين بأن الجودة ليست طارئة، بل هي طبع أصيل، وهكذا لا يعود الإنجاز أمرًا عارضًا، ولكن يصبح امتدادًا لمسؤولية ناضجة تُقدّر ما وُكّل إليها، وتمنحه حقه من الإتقان والوفاء.
ففي ختام كل جهدٍ صادقٍ لا يُقاس النجاح فقط بما أُنجز، بل بما زُرِع في النفوس من ثقةٍ، وما خُلّد من أثر يُلهم من يأتي بعده.
ضوء
يقول اللهُ تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}.