د. سطام بن عبدالله آل سعد
في إحدى القرى الجميلة، كانت هناك مزرعتان متجاورتان، لا يفصل بينهما سوى سور طيني هش، لكن الفارق بينهما كان عميقًا كالفارق بين الحقيقة والوهم.
المزرعة الأولى كانت بسيطة، أدواتها محدودة، لا آلات ضخمة، ولا تقنيات متطورة؛ فقط فلاح صبور، يسقي الأرض بعرقه، ويزرع البذور بتأنٍّ، ويتفقد تربته كل صباح، ويتعامل مع الشمس كأنها شريكة لا خصم. لم يكن يتحدث كثيرًا، ولم تكن مزرعته تملأ الدنيا ضجيجًا .. لكنه في كل موسم، كان يحصد.
أما المزرعة الثانية، فكانت حديث القرية؛ بأحدث المعدات، ومضخات تلمع تحت الشمس، وكاميرات ترصد كل حركة، تتوسط الحقل فزّاعة صفراء ضخمة، تبدو وكأنها الملك المتوَّج، لكنها لا تُحرّك ساكنًا. فالأرض قاحلة، وكل موسم ينتهي بلا حصاد، والبذور تُدفن.. ولا تعود.
ولأن المزرعة الثانية لم تكن تُنبت، قرر صاحبها أن يُقنع الناس بأن ما يزرعه «فريد من نوعه»، فأخذ يُرسل بذوره لمزارع بعيدة، ويعلن بفخر أنه يُصدّر نخبة البذور. تُعرض في أسواق خارجية، وتُستأجر لفترات مؤقتة، ثم تعود بلا فائدة، وكأن الهدف ليس الزراعة، بل الظهور.
وفي كل مرة يعود فيها موسمه خالي الوفاض، يرفع صوته باللوم على الشمس، أو الرياح، أو الفلاحين الآخرين الذين يحصدون صمتًا، دون ضجيج. أما هو، فلا يملك سوى تمجيد فزّاعته، والتغني بذكريات المواسم السابقة، وكأن الصور أهم من الثمر.
في الجهة الأخرى، لم يكن صاحب المزرعة الأولى يملك فزّاعة، ولم يكن يُصدّر شيئًا، لأنه ببساطة.. لا يُصدّر قبل أن يُثمر. كان يهتم بأرضه، ويراقب فصوله، ويبني بصبر وهدوء، وفي كل موسم كان يحصد أكثر، ويكبر زرعه، ويتسع احترام القرية له، لا يملك شعارات صاخبة، بل يملك صناديق ممتلئة.
هنا فقط تتجلى المفارقة.
الأرض واحدة، والشمس واحدة، والماء ذاته.. لكن المجد لا يصنعه الضجيج، بل يُصنع بالانغماس الصادق في التخطيط، والرؤية، والعمل.
وفي النهاية.. من أراد أن يُكتب له التاريخ، فليزرع كما يفعل الفلّاحُ الأول، ومن أراد أن يُضحك الناس، فليواصل الغناء للفزّاعة.