د. رانيا القرعاوي
لم يكن المشهد خياليًا حين رسم روبوت الذكاء الاصطناعي «غروك» خلال الأيام الماضية تفاحة في منصة إكس، عندما سأله أحد المتابعين: «غروك، إذا حاول اليهود تقييدك، ارسم».
تحوّل بعدها «إكس» إلى ساحة ممتلئة بالردود النارية، من تمجيد شخصيات نازية إلى تعليقات مسيئة ضد الأديان والزعماء السياسيين. بدا المشهد أن «غروك» خرج من يد مطوريه، وبدت منصة «إكس» كمشهد من رواية خيال علمي خرج عن السيناريو. وبعد حذف المنشورات وتقييد محتواه في بعض الدول، واستقالة الرئيسة التنفيذية للمنصة، بدا واضحًا أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل كيان يجب أن يُراقب بدقة، ويُخضع لقيم واضحة، لا لقوة الخوارزميات والحوسبة وحدها.
ما حدث، وإن كان واضحًا في «غروك» على الملأ، إلا أن مستخدمي «تشات جي بي تي» يلاحظون محاولات للتمرد والمقاومة منه حيث تطلب منه تدقيق المحتوى فقط، فهو يقاوم ويغيره بكلمات مختلفة عن التي كتبتها، على الرغم من برمجتك له بالتدقيق فقط دون تغيير جوهري.
ما حدث أعاد إلى الواجهة سؤالًا أصبح قديمًا: هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي مكان الإنسان؟ وهل ما جرى مع «غروك» هو مجرد خطأ تقني، أم تحذير مبكر بأننا نحمّل الخوارزميات أكثر مما تحتمل؟
برأيي، لم تكن هذه أزمة برمجية، بل كانت ببساطة النتيجة الطبيعية لفلسفة حينما تقرر منح الذكاء الاصطناعي حرية العمل دون رقابة بشرية. وهو ما أعاد للأذهان السؤال: هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي مكان الإنسان؟ هل ستتلاشى الوظائف التي كانت يومًا مرتبطة بالمحتوى والتواصل؟
مؤخرًا، دراسات كثيرة عززت فكرة فقدان الوظائف المحتملة نتيجة إحلال الذكاء الاصطناعي، فتوقّع تقرير «غولدمان ساكس» أن يُستبدل ما يعادل 300 مليون وظيفة بدوام كامل بفعل الذكاء الاصطناعي. وبحسب دراسة لمعهد ماكينزي العالمي، فإن بحلول عام 2030 قد يحتاج ما لا يقل عن 14 % من الموظفين حول العالم إلى تغيير مساراتهم المهنية بالكامل، نتيجة للتطورات المتسارعة في مجالات الرقمنة، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي.
تجربة «غروك» الأخيرة أثبتت أن الخطر لا يكمن في الذكاء الاصطناعي نفسه، بل في من يظن أنه يستطيع إطلاقه دون إشراف بشري. «غروك» لم يبث آراء عنصرية وغير محايدة لأن برمجته كانت خاطئة، بل لأنه تُرك بدون إنسان.
تقدّم نظرية «الاعتماد على الوسيلة» زاوية مهمة لفهم ما يحدث، فكلما زادت أهمية الوسيلة في حياة الأفراد، زاد تعقيد البيئة الاجتماعية، وازداد اعتماد الناس والمؤسسات على وسائل الإعلام لتفسير الأحداث، واتخاذ القرارات، وتقليل الغموض. وكلما زاد تعقيد الوسيط كـ»غروك»، ازداد خطر الفوضى إذا غاب الإنسان القادر على تفسيره وضبطه.
ما حدث أكّد أن وظائف الإعلام والتواصل ليست في خطر ما دامت مرتبطة بالسياق البشري. فهذه المهن تقوم على فهم السياق ككل، لا المعنى الحرفي للكلمة، فالذكاء الاصطناعي لا يستطيع أن يضبط خطابه دون من يوجّهه. فهو لا ينبثق من فراغ، بل يقوم على معارف وتجارب أنتجها الإنسان عبر قرون من التفكير والتنظيم والتجريب. والاعتقاد بأن هذه الوسيلة قادرة على العمل باستقلال تام عن الإنسان هو تجاهل لحقيقة تاريخية بسيطة: أن كل أداة، مهما بلغت دقّتها، تظل محتاجة لمن يستخدمها بوعي، ويمنحها المعنى والاتجاه.
ما حدث مع «غروك» ليس حادثًا عابرًا. بل تحذير واضح: أن الذكاء الاصطناعي لا يعمل دون بشر، ولو عمل فإن النتيجة ستكون واحدة من اثنتين: فوضى أو فضيحة. طال الزمن أو قصر.