د. فهد صالح عبدالله السلطان
لم تعد التطورات والمستجدات العالمية تسير وتنمو بنمط طبيعي تدريجي كما هو الحال منذ نشأة التاريخ وأصبح العالم يتغير بشكل رديكالي لا مجال فيه للدعة والسكون بل يمكن القول إن سرعة الزمن لا توفر مساحة للتفكير والتأمل.
ولم تعد الحروب والكوارث الطبيعية وغيرها من رياح الزمن المحسوسة هي المهدد الأخطر للبشرية، لقد تغيرت قواعد اللعبة تماما وأصبحت التطورات التقنية والعلمية والاقتصادية والأيدلوجية تمثل تحديا خطيرا وتحدث بوقت زمني قياسي ربما لا يتعدى الشهور بل الأيام، حتى أصبح الاستقرار شذوذا والحركة هي القاعدة.
وكما أن تلك التطورات غير المسبوقة ساهمت في خدمة البشرية بمختلف قطاعاتها فقد أنتجت مخاطر ومهددات للبشرية ربما تفوق ما ساهمت فيه من إيجابيات. والمشكلة الأكبر أن معظم هذه المخاطر مدمرة، ولن يتضح أثر أكثرها على المدى القريب كما سيتم طرحه بايجاز في هذه المساحة المحدودة.
سيتم في هذا المقال استعراض بعضا من أكبر المهددات الحالية للبشرية من وجهة نظر الكاتب، مع التذكير بأن هناك مهددات أخرى سيتم التطرق اليها في مقال لاحق.
أولا: الذكاء الاصطناعي AI:
وهو تطور تقني قدم للبشرية خدمات علمية وبحثية ومعلوماتية غير مسبوقة، ولكنه في ذات الوقت فتح مساحة كبيرة على مهددات خطيرة سيتضح أثرها في قادم الزمان، ولعل استقالة جيفري هنتون أبو الذكاء الاصطناعي من عمله في شركة قوقل تشرح كثيرا من الأمور وتختصر علينا ذكر الكثير من المخاطر المترتبة على هذا النموذج التقني الجديد.
لقد علل السيد جفري الاستقالة بفداحة المخاطر التي ستترتب على هذا النموذج التقني الجديد، وعندما سئل عما اذا كانت البشرية تعلم عن تلك المخاطر، وهل تعلم ماذا تفعل أجاب ب لا. والمعضلة الأكبر من وجهة نظر جفري هي أننا لا يمكن أن ندرك ما الذي سيحدث عندما تتفاعل الخوارزميات مع المعلومات ويحدث التعقيد، ولا يمكننا حينئذ أن نتوقع المخرجات عندما تتعقد الأمور:
We do not know what will happen when things get more complicated. We only designed learning algorithm but when interact with data we do not know how complicated will be». Jeoffrey Hinton
وباختصار، فهو يؤكد على أن الريبوتات عندما تبني أكوادا معينة وتتعامل مع المعلومات وتتفاعل معها فلن يكون بوسعنا القدرة على تحليل ما يجري داخل عقولها ولا يمكننا حينئذ توقع ما ستنتهي إليه من نتائج.. وهو ما ينذر بخطر كبير لم تدركه البشرية بعد.
ولذلك قرر الاستقالة والتنحي عن هذا النموذج المدمر وكشف مخاطره، مثله مثل بيل جوي وغيرهم من العلماء الذين ساهموا في ابتكار وتطوير هذه التقنيات المتقدمة ثم أدركوا ما قد تؤول إليه من مخاطر.
المشكلة أن عقل الروبوتات يتعامل فقط مع الخوارزميات بدون أي محددات أو قيم إنسانية أو دينية والتي عادة ما تحد من ميول العقل البشري الى الانحراف وتمنعه من ارتكاب أفعال خطيرة على الآخرين.
والمشكلة الأخرى في الذكاء الاصطناعي، أنه في متناول الجميع صغارا وكبارا عقلاء وجهلة أسوياء ومجرمين. وغني عن القول التذكير بأن تمكين الجهلة والمجرمين والمراهقين من امتلاك الأدوات الخطيرة كالأسلحة الفتاكة وغيرها يتضمن مخاطر كبيرة عليهم وعلى المجتمع ككل.
لكن المجتمع البشري الحالي مكنهم من استخدام الذكاء الاصطناعي بكافة وسائله وبأيسر السبل وأرخص الأسعار، وهو كما يعلم الجميع أخطر وبمراحل متقدمة من كل الأسلحة التقليدية الفتاكة الأخرى التي أنتجتها البشرية على مر السنين.
وفضلا عن ذلك، فإن برامج وأدوات الذكاء الإصطناعي ستنتج لنا جيلا متواضع القدرات العقلية والتحليلية والذكاء. وهذا يعود لاعتماد الجيل الجديد بشكل شبه كلي على خدمة تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي كفته مهمة البحث والدراسة والتحليل مما قد ينذر بتحول عقول الجيل الجديد الى عقول خاملة معاقة وغير مبدعة.
وباختصار، فإن هذا التطور التقني بقدر ما سيساهم فيه من خدمة للبشرية فإن استخدامه بدون حوكمة وانضباط قد يفضي إلى نتائج سلبية خطيرة.. ولذا فإن الأمر يتطلب المسارعة في صياغة وثيقة حوكمة شاملة لضبط آلية استخدامه من قبل المبرمجين، وبناء الأكواد، ومن جانب المستفيد النهائي من جانب آخر.
ثانيا: توجهات الحرية المطلقة:
الحرية المطلقة مصطلح فكري عقائدي ايديلوجي.. أو قل كلمة حق أريد بها باطل، وفي المجتمعات الغربية ينظر إليها على أن الإنسان حر فيما يفعل ما يشاء وقت ما يشاء بالطريقة التي يشاء دون أي قيد طالما لم يؤذ الآخرين. والخطأ الفادح الذي وقع فيه دعاة هذه الفلسفة ومنظروها هو الجملة الآخيرة «طالما لم يؤذ الآخرين». فإيذاء الآخر موضوع نسبي يختلف من مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى ومن شخص لآخر.. فعلى سبيل المثال في بعض المجتمعات الغربية ينظر الى حرية اللباس على أنها موضوع شخصي ولا يؤذي الآخرين مهما كان من العري حتى لوكشف عن معظم أجزاء الجسم، وذلك على عكس المجتمعات الإسلامية التي تعتبر ذلك أمرا غير مقبول ومؤذ للآخرين. بل أن دعاة الحرية في الغرب أصلوا لموضوع الشذوذ الجنسي والتحول من جنس لآخر، وتم تشريع ذلك في كثير من الدول باعتباره حرية شخصية وغير مؤذ للآخرين، بينما تعتبره المجتمعات المحافظة سلوكا غير مقبول وضرره متعد ويتناقض مع الفطرة ومع بقاء البشرية. الحرية المطلقة في نموذجها غير المقيد لا حدود لها، حتى وصل الأمر بدعاتها إلى المطالبة بتشريع زواج الإنسان بالحيوان والزواج من القصر ..الخ.
الدعوى بأن تلك السلوكيات الشاذة أمر شخصي وغير متعد دعوى باطلة فقد أصبح العالم يعيش في قرية واحدة بل في قاعة الكترونية واحدة.. يجتمع أطفالنا مع بعضهم البعض في فصول الدراسة وفي ميادين اللعب والرياضة وفي ساحات النت السحابي وفي قنوات التواصل الافتراضي وحسابات الفضاء الهلامي ..الخ، يتأثر بعضهم ببعض ويقتدي بعضهم ببعض ويسيء بعضهم إلى بعض ..إلخ.
من أخطر ما تهدف اليه تلك البرامج هو هدم الإسرة والذي يمثل معولا في هدم المجتمعات بأسرها.
والحقيقة أنه لم يعد هناك سلوك اجتماعي غير متعد.. هذه الدعوى الشريرية دعوى كاذبة خاطئة.
الشيء الذي لم يفهمة منظرو تلك المجتمعات هو أن الحرية السليمة هي حرية الإسلام التي تنفي عبودية الإنسان لهواه وما سوى صانعه وخالقه؛ لأنها حرية تنسجم وقدراته وعناصر تكوينه وأهداف وجوده ومنهج حياته وعوامل حفظه وبقائه. هذه الحرية هي التي أضافت جمالا وروعة وراحة لبيئة المملكة العربية السعودية.
في المقال القادم نستكمل وسيتم طرح بعض من المهددات الأخرى.. إن شاء الله.