د.عبدالله بن موسى الطاير
جيلنا محظوظ ومنكوب، في آن، بتنوع التجارب والأنساق التي عاصرها، فقد أتى علينا حين من الدهر والعلاقات الدولية تُدار خلف الأبواب المؤصدة بروية وحكمة ومسؤولية، وها نحن نراها ترسم وتنفذ على شبكات التواصل الاجتماعي حيَّة على الهواء مباشرة، باندفاع وتهور واستهتار.
يحكم الاستقرار العالمي توازن دقيق بين القوة والمصالح والثقة والقدرة على التنبؤ. في عالمنا المتصل ببعضه اليوم، يُمكن لتصريحات وقرارات القوى الكبرى الاندفاعية أن تُزعزع استقرار الاقتصادات، وتُقوِّض السلام، وتُهدِّد الأمن الدولي والسلم المجتمعي. بعض القادة، مُقلِّلين من شأن نفوذ دولهم، يتعاملون مع الخطاب الاستفزازي أو القرار المُتسرِّع على أنه مُجرّد تكتيك تفاوضي، متجاهلين عواقبه الوخيمة. يكشف هذا التباين بين الدبلوماسية المُدروسة والاندفاع المُتهور عن اتجاه خطير ومتسارع في علاقات الدول والشعوب بعضها ببعض.
يسئ بعض السياسيين الهواة والشعبويين تقدير وتعريف القوة في العلاقات الدولية؛ والحقيقة أن القوة ليست مجرد بأس عسكري أو هيمنة اقتصادية؛ بل هي القدرة على تشكيل النتائج العالمية، وهو أمر خارج عن تصوراتهم الضيقة. بسذاجة تصل حد الوقاحة، تمارس دول كبرى، أحياناً، نفوذًا غير مُتناسب، فتزعزع بتصريحاتها الأسواق العالمية، وتُصعِّد التوترات، وتضع العالم على شفير الهاوية. عندما يُسيء القادة تقدير قوة بلدانهم، مُفترضين أن كلماتهم غير ذات أهمية، فإنهم يُخاطرون بعواقب وخيمة غير مقصودة. على سبيل المثال، فإن تغريدة لرئيس دولة عظمى يهدِّد فيها الدول بالويل والثبور وعقاب قد اقترب تؤدي مباشرة إلى زيادة القلق العالمي وإلى تقلبات حادة في الأسواق، وانخفاض المؤشرات المالية في غضون ساعات، مما يعكس كيف يمكن لبيان، لم يكن على الأرجح سوى حيلة تفاوضية أن يقوِّض الثقة بين الحلفاء الأقربين. المصالح الوطنية لكل دولة حق مشروع ومقدَّم، وغالبًا ما تكون هي الدافع وراء التصريحات والقرارات العجولة، وحيث يعطي القادة الأولوية للمكاسب السياسية المحلية على الاستقرار العالمي، إلا أن الإفراط في الأنانية، والتفرّد بالقرار يؤدي إلى ردود أفعال معاكسة.
بليت السياسة في عصرنا بالشعبوية، ومن سوء الطالع أنه أصبح لها منصات تروِّج لشعاراتها على نطاق واسع وبدون قيود. الخطابات العدائية توجه عادة لجذب القاعدة الانتخابية، وهي وعود وتهديدات ترفع مستوى الدوبامين للحظات، ثم يتم التراجع عنها، والنكوص، وإن كان التراجع، يقلِّل من المصداقية ويفاقم عدم الجدية، فإنه من جانب يلحق ضرراً بالغاً بالثقة.
تآكل الثقة، وهي مبدأ حاسم في الدبلوماسية، يحدث حين تشكك الدول الأصغر في موثوقية الدول الأكبر كشريك إقليمي أو دولي. الفجوة الحاثة بين أوروبا وأمريكا مثلاً تسلّط الضوء على كيف يمكن للتعبير الجلف عن المصالح الضيقة أن يقوِّض الأنظمة المترابطة، ويمزِّق الثقة، التي يصعب رتقها.
مبدأ آخر مهم في السياسة يتمثَّل في القدرة على التنبؤ، الذي بدوره يعزِّز التعاون والمصداقية في مقابل الأفعال المتهورة التي لا يمكن توقعها، وتسهم في رواج الشك والريبة، ومن ثم حشد الموارد لمواجهة خطر لا يمكن توقع من أين يأتي ومتى.
بينما تنظر دول، ويعتقد ساسة، أن تصريحاتهم مجرد كلام جرائد، الغرض منه ممارسة الضغوط القصوى لحصد مكاسب على طاولة المفاوضات، أو إحلال السلام بلغة القوة، فإنها تخاطر بسوء التقدير، حيث يرد الطرف المستهدف بإجراءات تصعيدية، مما يفاقم احتمالات الصراع.
من الثابت أن الدبلوماسية تزدهر بالقدرة على التنبؤ وضبط النفس، لا بالمواقف المتهورة، غير أن صناديق الاقتراع، والأحزاب الشعبوية تنمو وتزدهر بالخطابات الاندفاعية والوعود النارية بغض النظر عن واقعيتها وإمكانية تنفيذها، وبغض النظر عن الضرر الذي تلحقه بالآخر.
النظام العالمي أسس المنتديات متعدِّدة الأطراف، مثل الأمم المتحدة أو مجموعة العشرين، أو مجموعة السبع، لتعزّز الحوار، والثقة، وقابلية التنبؤ بسلوكيات الدول من أجل كبح جماح النزعات الاندفاعية. كما أن آليات المساءلة المحلية، مثل الرقابة التشريعية القوية، يفترض فيها أن تكبح القرارات المتسرِّعة. إلا أنه يظهر جلياً عجز المنظمات الدولية متعددة الأطراف والأجهزة الرقابية التشريعية المحلية عن لجم الخطاب الشعبوي.