د. عبدالحليم موسى
عندما يعصف الفراق بالروح الإنسانية.. تتحول الحياة وكأنها سفينة يحملها البحر وتتحكم في سيرها الأمواج المتلاطمة.. في قصة أملٍ تكون محصلتها النجاة أو الغرق؛ هذه مقدمة لرحلة في عالم المجهول؛ صاغتها حنان الليبية؛ التي حُجب عنها الانتماء الأسري، عندما فرحت أمها بصرخة قدومها للحياة؛ حيث ولادتها في ليبيا منذ 44 عاماً، ثم يختطفها القدر بضياعٍ من حضن أمها، بفعل قدر قاسٍ وكذبة قيلت في لحظة تاريخية فقدت فيها الإنسانية.
قيل لوالدتها إن الطفلة ماتت بعد هنيهة من الولادة؛ هذا الموت لم يكن موت الجسد، بل موت لقاء الأم مع طفلتها حديثة الولادة، موت الصرخة الأولى للطفلة بعد الولادة، موت العناق الأول بين الأم وطفلتها؛ التي لم تكن تعلم أنها حنان، حيث تركت الطفلة أمام أحد المساجد، وقد كُتب على حنان أن تعيش في كنف الغرباء، ثم تُحرم من دفء عائلتها الثانية بعد وفاة والديها بالتبني.
قصة حنان ليست نادرة؛ قد تتكرر في كل بقعة من جغرافيا كوكب الأرض قديماً وحديثاً، تتكرر ليس من خلال قصة فتاة وجدت أمها، بل لأنها تمثل شيئًا جوهريًا في التجربة الإنسانية، أن نبحث عن أنفسنا في وجوه الآخرين، أن نعيد تشكيل ذواتنا من خلال الصدق، أن نجد عائلة تسعى جاهدة لتمنحنا اسما جديدا، وتجتهد لتمنحنا انعكاسا حقيقيا لما نحن عليه.
ولادة حنان الحقيقية بدأت هذا العام 2025؛ حين اكتشفت أنها لم تكن يتيمة كما أخبروها، ولا لقيطة كما وصفها مجتمعها الصغير؛ وقالت حنان: كنت أظن أنني مجهولة النسب، فاكتشفت أنّ لي عائلة تشبهني؛ هذه الجملة وحدها تكشف الكثير، كم من الناس يعيشون حياتهم دون أن يجدوا من يشبههم، فالشبه هنا لا يعني الملامح فقط، بل شبه الروح والطبع والدم الذي يجري في ذات الأجساد الساكنة والمتحركة وهي تحمل نفس الجينات.
لكن هل يُعوض اللقاء المتأخر كل سنوات الضياع والبحث عن الذات؟ حنان لا توهم نفسها بذلك؛ حيث قالت إن ما يؤلمها هو الأيام والأعوام التي سُرقت منها، لكنها وجدت شيئًا أعظم في دواخلها: سلاماً داخلياً طالما كان ناقصا، كالهواء المنقوص من رئة تعاني من المرض.. في زمن تنهار فيه الروابط الأسرية بسهولة، وتُقطع العلاقات بلمسة أزرار، تعيد حنان تعريف الأسرة، لا كروتين اجتماعي، بل كـوطن عاطفي لا بد أن نعود إليه مهما طال التيه في الصحراء.
حنان لم تكن تعرف من هي، لكنها كانت تقاوم الفراغ بالمعنى: درست، عملت، انخرطت في الإعلام والحقوق، صارت صوتا إعلاميا يطالب بحقوق الآخرين، وهي تبحث عن صوتٍ يقول لها: «أنتِ منّا».. ومع كل ما بنته، ظل هذا السؤال المركزي في حياتها يهتف في عقلها كطيف لا يهدأ.. ثم جاءت اللحظة التي تشبه المعجزات؛ في بث مباشر على «تيك توك»، صوت شاب يفاجئها بأسئلة تحرك سكون الماضي في ذاكرتها؛ وهو شقيقها البيولوجي، عمر موسى، لم يكن يحمل فقط صوته، بل ذاكرة أمّه التي لم تصدق يوما أن ابنتها ماتت، بل احتفظت بها في صدرها منذ أن أخبروها بموتها في المستشفى.
ما قاله عمر لم يكن فقط خبرا عاديا؛ بل كان ارتدادا عاطفيا وجوديا، أعاد تعريف الزمان في لحظة صدق قلب أم تبحث بكل ثقة كأنها يعقوب يبحث عن يوسف وسط تهكم قومه «لولا أن تفندون»: لأنها ما زالت تنتظرها منذ أكثر من 40 عاماً.. ولم تكن حنان تعرف مَن تكون، بل رأت وجهها في وجه أمّها للمرة الأولى، ورأت ملامحها مبثوثة في ملامح إخوتها، وكأن المرآة المكسورة تجمّعت فجأة لتُظهر صورتها الحقيقية في وجوه عائلتها.
وفي ختام هذه القصة الأشبه بالمستحيل.. ظهرت حنان؛ في فيديو لاحق وهي تبكي، لكن بكاءها لم يكن حزناً خالصاً، بل مزيجاً غريباً من فرح الاعتراف وحزن الغياب وتأنيب المجتمع الإنساني من تكرار قصتها في بلدها أو غيره.. وهنا نسأل كم حنانٍ في هذه الدنيا فقدت حضن أمها دفء صدرها.. مودعة بذلك عمر الطفولة الزمني الذي يعيشه كل إنسان في كنف أسرته.