عبدالوهاب الفايز
استكمالاً لما طرحناه الأسبوعين الماضيين حول زيارة إلى الصين، كان من الطبيعي أن يشمل البرنامج مدينة شينزن Shenzhen، فهذه المدينة شهدت بداية التحول الاقتصادي الصيني الكبير، من الأمور التي تكشف عن رحلة التحول العظيمة في هذه المدينة هي:
إمكانية التقدم والانتقال من العالم الثالث إلى الريادة في العالم الأول خلال أربعة عقود فقط، أي في جيل واحد. كيف حدث هذا؟
في عالم لا يزال يعاني من تبعات الفقر والتخلف في العديد من الدول النامية، تبرز تجربة الصين كمختبر حي للتنمية الاقتصادية الناجحة والسريعة.
تذكرت هذه التجربة العظيمة، وتمنيت أن تتكرر في أفريقيا، خاصة بعد الزوبعة السياسية والإعلامية التي أثارها اللقاء الأخير بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وخمسة من الزعماء الأفارقة، والذي أثار نقاشات حول العلاقات الدولية والتذكير بسنوات الاستعمار الغربي المريرة.
ربما يمثل هذا اللقاء صدمة وجودية للأفارقة، لكنه يدعو إلى التفكير في نماذج تنموية ناجحة مثل تجربة شينزن. لعل وعسى!
خلال جيل واحد فقط، تحولت مدينة شينزن من قرية صيد صغيرة إلى مركز تكنولوجي عالمي ينافس وادي السيليكون في كاليفورنيا.
هذا التحول يثبت أن الانتقال من العالم الثالث (أي المتخلف في مؤشرات التنمية الأساسية المستدامة) إلى الأول ليس حلماً بعيد المنال.
في الصين، تحول هذا التطور إلى واقع تحقق برؤية سياسية جريئة، وبإرادة شعبية فولاذية، وبتخطيط علمي دقيق.
هذه التجربة ليست (معجزة) أو صدفة، بل نتيجة لاستراتيجيات مدروسة، وتوفر دروساً قيمة، خاصة الدول النامية التي تسعى للخروج من دائرة التخلف، وحتى الرئيس دينغ شياو بينغ لم تكن مهمته سهلة، فقد واجه مقاومة شديدة داخل القيادات السياسية المتخوفة من النموذج الجديد.
أينما ذهبت وفي كل اللقاءات، تسمع قصة البداية لهذه المدينة العملاقة. بدأت قصة شينزن في عام 1979، عندما كانت مجرد قرية صيد متواضعة تضم حوالي 30 ألف نسمة، تعتمد على الزراعة والصيد البسيط. لم تكن تمتلك بنية تحتية حديثة، وكان اقتصادها ضعيفاً جداً. في عام 1980، أعلنت الحكومة الصينية تحويلها إلى أول «منطقة اقتصادية خاصة» في الصين، كجزء من سياسة الإصلاح والانفتاح التي أطلقت في عام 1978.
هذه السياسة سمحت بجذب الاستثمارات الأجنبية، وتخفيض الضرائب، وتشجيع الابتكار. طبعاً، موقعها الاستراتيجي قرب هونغ كونغ ساعدها وسهل تبني النموذج.
شنزن تلخص تجربة الصين، فكل هذا النمو الواسع بالذات في البنية الأساسية الضخمة التي تراها وتستمتع بها عمرها أربعة عقود فقط! هل هذا كافٍ لبناء اقتصاد عظيم بمعايير العالم الأول؟
شهدت المدينة نمواً مذهلاً: ارتفع عدد سكانها إلى أكثر من 17 مليون نسمة بحلول عام 2023، وزاد الناتج المحلي الإجمالي من 181 مليون دولار أمريكي في 1980 إلى 482 مليار في 2023. أصبحت شينزن موطناً لعمالقة التكنولوجيا مثل هواوي التي تتوقع إيرادات تتجاوز 200 مليار دولار أمريكي في 2025، وتينسنت (مطورة تطبيق وي تشات)، وبي واي دي (رائدة في السيارات الكهربائية بحصة سوقية 31.9% في الصين). كما أنها تضم أكبر سوق إلكترونيات في العالم، وتستثمر نحو 4% من ناتجها المحلي في البحث والتطوير، مما يجعلها تتصدر قوائم البراءات العالمية.
التحول لم يكن اقتصادياً فحسب، بل شمل جوانب اجتماعية وبيئية أيضاً. اجتماعياً، أصبحت المدينة مركزاً للشباب والمبتكرين، حيث تضم 20% من حملة الدكتوراه في الصين، وتشجع على ثقافة ريادة الأعمال. بيئياً، ركزت على التنمية الخضراء، مثل تطوير المدن الإيكولوجية واستخدام الطاقة المتجددة، رغم التحديات مثل التلوث الناتج عن النمو السريع. ولكن ما هي العوامل الرئيسية وراء النجاح؟ لم يكن نجاح شينزن صدفة، بل نتيجة لثلاثة عناصر أساسية، تقدم نموذجاً عملياً ناجحاً يمكن التعلم منه. أولها الرؤية السياسية الجريئة: لعبت الحكومة الصينية دوراً حاسماً من خلال سياسات الإصلاح، كما شجعت على جذب الاستثمارات الأجنبية وتدريجياً تحرير الأسواق، مما جعل شينزن مختبراً للتجارب الاقتصادية، كذلك، نجحت لأن الشعب الصيني ساهم بإرادة قوية في العمل الجاد والابتكار.
أصبحت المدينة مركزاً للمغامرين والمهاجرين الذين يبحثون عن فرص. قفز الاستثمار من صفر إلى 70% من الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين خلال خمس سنوات، وخلال رحلة التحول، لا يُخفي الصينيون الذين تتحدث معهم حقيقة وجود ثقافة «النسخ قبل الابتكار»، لقد انطلق الجميع في حالة ضرورة التفوق في الإنتاج السريع والرخيص. أيضاً، اعتمدت شينزن على التخطيط المدروس، ويشمل ذلك بناء بنية تحتية متقدمة، مثل جسر شينزن باي في 2007، والتركيز على الابتكار في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة الجديدة، كما ركزت على التعليم والتدريب، مما جذب الكفاءات العالمية.
هل تقدم هذه التجربة دروساً للعالم، أي تصبح نموذجاً قابلاً للتكرار؟ نعم، فعلى أرض الواقع، ومن تجربة القيادات التي عاشت المرحلة وكانت شاهداً حياً وممارساً، ونجاحهم ولد من رحم هذه التجربة، الاستفادة ممكنة. يلخص هؤلاء تجربة شينزن العملية للدول النامية، عبر الاستفادة من عدة أمور طبقتها الصين، مثل:
- جذب الاستثمارات من خلال المناطق الاقتصادية الخاصة: يمكن للدول إنشاء مناطق مشابهة لجذب رؤوس الأموال الأجنبية، مع التركيز على التحرير التدريجي للسوق واستغلال الموقع الجغرافي.
- التركيز على الابتكار والتعليم: استثمار نسبة عالية من الناتج المحلي في البحث يعزز القدرة التنافسية، كما في شنزن التي أصبحت نموذجاً للتنمية الخضراء والتكنولوجية، أغلب الشركات استمرت لسنوات تعيد استثمار أكثر من 15% من إيراداتها في الأبحاث والتطوير.
- في شينزن تم التركيز على الاستثمار في رأس المال البشري وجذب الكفاءات عبر مراكز تدريب مدعومة حكومياً، وتحويل المزارعين إلى مهندسين، واستقطاب 200,000 خبير تقني سنوياً منذ 2010.
- التكيف مع التحديات: رغم النجاح، واجهت شينزن مشكلات مثل التلوث والازدحام، لكنها عملت على خفض انبعاثات الكربون 35% عبر تحديث المصانع، و بناء (مدن إيكولوجية) مثل «شانجينج»، أي تعاملت معها من خلال التنمية المستدامة، مما يعلمنا أهمية الانتباه إلى أهمية التوازن بين النمو والاستدامة.
- بناء ثقافة ريادية: تبنت تشجيع الشباب على المخاطرة والابتكار، وهذا يمكن أن يحول الاقتصادات النامية، كما حدث في الصين التي هربت من فخ الفقر من خلال التنمية التحويلية على نطاق وطني. تثبت شنزن أن التحول ممكن خلال جيل واحد إذا اجتمعت الرؤية والإرادة والتخطيط. إنها ليست مجرد قصة صينية، بل رسالة أمل للعالم بأسره، تدعو الدول النامية إلى استلهام هذا النموذج لبناء مستقبلها.
وهكذا تحولت المدينة من حقل أرز إلى مختبر المستقبل، وفي أربعة عقود. في فلسفة التأسيس، لدى الصينيين عبارة تقول: «عبور النهر عبر لمس الحجارة»، أي التجريب ثم التوسع. وهذه هي فلسفة التنمية في شينزن. وهي قصة تقدم المسار المناسب للتطور، وهذا الذي تسعى له الحكومة الصينية، إنها تتطلع أن تستفيد من تجربتها وتقدمها الدول التي مازالت تعاني من التخلف التنموي خصوصاً في أفريقيا.