د. محمد بن أحمد غروي
تخوض إندونيسيا اليوم تجربة ثقافية فريدة بإعادة كتابة تاريخها الوطني من منظور جديد، يحمل في طياته سردية موحدة تُعزز الانتماء، وتُعيد الاعتبار لمساهمات الأرخبيل الآسيوي على الساحة العالمية، ففي لحظة رمزية تتزامن مع قرب احتفال البلاد بالذكرى الثمانين لاستقلالها، تستنهض إندونيسيا ذاكرتها الجماعية، ليس فقط عبر استعادة الماضي، بل بإعادة تشكيله بما يتواءم مع روح الدولة الحديثة متعددة الأعراق والثقافات؛ باعتبارها الدولة الأكبر في جنوب شرق آسيا وعضوًا مؤسسًا لرابطة دول آسيان.
تمتد إندونيسيا على مساحة تتجاوز 5,100 كيلومتر وتحتضن أكثر من 281 مليون نسمة، ما يجعلها رابع أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، وخلال تاريخها الطويل، مرت البلاد بمحطات حاسمة تراوحت بين الاستعمار، والكفاح من أجل الاستقلال، والتجارب الديمقراطية، والنهوض التنموي، وهي محطات لم تنل دائمًا حقها في التوثيق أو التفسير من وجهة نظر محلية. من هنا، جاء مشروع «إعادة كتابة التاريخ الوطني الإندونيسي» كمبادرة حكومية ترعاها وزارة التعليم والثقافة والبحث والتكنولوجيا، بميزانية تقارب 9 مليارات روبية (نحو مليوني ريال سعودي)، ويرتكز المشروع على سردية «مركزية إندونيسية»، تراعي الخصوصية الثقافية للبلاد، وتمنح الأولوية للخبرات والتجارب المحلية على حساب السرديات المستوردة أو الاستعمارية.
تهدف هذه المبادرة إلى تقديم نسخة رسمية وشاملة لتاريخ إندونيسيا، تبدأ من عصور ما قبل التاريخ، وتغطي مراحل الاستعمار الهولندي، وحركات المقاومة، والاستقلال، وصولًا إلى الحقبة الديمقراطية المعاصرة.
وتؤكد وزارة الثقافة أن الغاية من هذه الكتابة ليست فقط تعليم الأجيال الجديدة، بل غرس شعور بالفخر الوطني، وتثبيت القيم الجامعة التي تساهم في تعزيز وحدة البلاد رغم تنوعها الكبير. ولهذا، يعمل المشروع على إظهار التاريخ بصيغة إيجابية دون طمس للحقائق، بل عبر إعادة التأطير، وتوسيع الزوايا، والاعتماد على مقاربات متعددة التخصصات.
وتحت إشراف مباشر من حكومة الرئيس برابوو سوبانتو، يسعى المشروع إلى أن يكون التاريخ أداة فاعلة في بناء الأمة، ووسيلة لتعزيز الوعي الجمعي تجاه الدور الإندونيسي في تشكيل النظام الإقليمي والعالمي، فإندونيسيا لم تكن مستعمَرة خاضعة فقط، بل دولة لعبت أدوارًا رائدة في تأسيس حركات مثل عدم الانحياز، وتنظيم مؤتمر باندونغ التاريخي عام 1955، وتأكيد هوية آسيا وأفريقيا في خضم الاستقطاب العالمي.
ويكتسب المشروع زخمًا إضافيًا من كونه يُعالج ثغرات معرفية قائمة في الرواية الرسمية، خاصة بعد الاكتشافات الأثرية الحديثة التي تعيد رسم خريطة الحضارات القديمة في الأرخبيل، ومن ذلك، اكتشاف لوحات أثرية في كهف «ليانغ ليانغ» في منطقة ماروس بجنوب سولاويزي، تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، ومن شأنها أن تُغير تصورات سابقة عن التسلسل الزمني للحضارات، إلى جانب ذلك، يتطرق المشروع لتاريخ الاستعمار الهولندي الممتد والمركب، والذي لم يحدث بشكل متزامن في جميع مناطق البلاد، وهو ما يُسلط الضوء عليه اليوم كأحد الجوانب التي يجب إعادة تفسيرها بإنصاف وتفصيل. ومن الجدير بالذكر أن المشروع يضم فريقًا واسعًا من المؤرخين والأكاديميين يصل عددهم إلى 113 كاتبًا، و20 محررًا لمجلدات، وثلاثة محررين عامين، موزعين على مختلف جزر إندونيسيا، بدءًا من آتشيه غربًا وصولًا إلى بابوا شرقًا، ويرى رئيس جمعية المؤرخين الإندونيسيين أن العديد من الأحداث المفصلية في تاريخ البلاد بحاجة إلى إعادة قراءة، لا لتزييف الماضي، بل لفهمه بشروط الحاضر، ولتصحيح التصورات التي خُلقت في سياقات استعمارية. حتى مايو الماضي، حقق المشروع تقدمًا بنسبة 70%، ومن المقرر الانتهاء منه تزامنًا مع احتفالات عيد الاستقلال الثمانين في أغسطس 2025، وهو ما يمنحه دلالة رمزية تعكس إصرار الدولة على الجمع بين استذكار الماضي واستشراف المستقبل في لحظة واحدة.
وبينما تعيد إندونيسيا رواية تاريخها، يُطرح سؤال مشروع: هل نحتاج نحن أيضًا إلى إعادة كتابة تاريخنا الوطني، في ظل ما تشهده الساحة السعودية من اكتشافات أثرية حديثة قد تُعيد تشكيل فهمنا للهوية والجذور؟، لقد أصبح لدينا وزارة ثقافة حديثة العهد نسبياً، نشطة في التنقيب عن الإرث الحضاري ومتحمسة لإعادة تشكيله، ما يفتح الباب واسعًا أمام مشروع متكامل لتوثيق التاريخ الوطني برؤية سعودية متجددة، تتجاوز النماذج التقليدية وتستلهم تطلعات رؤية 2030.