منال الحصيني
كما أن الجسد لا يستعيد مرونته إلا بالرياضة، ولا يحتفظ بحيويّته إلا بالمواظبة على الحركة، فإن العقل كذلك يحتاج إلى ما يُنعشه، يُنقّيه، ويعيد إليه توازنه... إنها اللياقة العقلية، تلك الرياضة الصامتة التي لا تُمارس في الصالات، والأندية، بل تُمارس بالأفكار، والمواقف، وفي طريقة تعاطينا مع الحياة.
اللياقة العقلية ليست الذكاء ولا النباهة الاجتماعية، هي حالة من التوازن الداخلي، تجعل العقل قادرًا على التفكير الواضح، واتخاذ القرار الهادئ، وتحليل الواقع دون الانجرار للعاطفة أو الانحياز أن تعرف متى تُفكر، ومتى تتوقف، ومتى تعيد النظر، ومتى تصمت؟
فالعقل «الليّن» لا يعني عقلًا هشًا، بل عقل مرن لا يتصلب على رأي، ولا يتعصب لفكرة، هو عقل يُحاور، يُراجع، يُناقش ذاته قبل الآخرين.
أن تكون صاحب لياقة عقلية، يعني أن تملك القدرة على التمييز بين ردة الفعل والاستجابة الواعية. أن ترى الأمور كما هي، لا كما تُمليها مخاوفك ورغباتك، لكن هذه اللياقة لا تأتي من تلقاء نفسها، بل تُكتسب بالتدريب كأن تقرأ ما يخالفك وتفهمه لا أن تهاجمه، وأن تُمارس التفكير النقدي لتُبصر لا أن تشُك، وأن تعتاد الصمت الواعي، لا الصمت العاجز، وتدرك متى تحتاج للمراجعة ومتى تملك قول «لا أعلم»، فهنا يتبلور الجانب الإيماني كجذر أصيل في بناء هذه اللياقة.
القرآن لم يخاطب «المؤمنين» فقط بل خاطب {أُوْلِي الأَلْبَابِ}، و{لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، و{يَتَفَكَّرُونَ}.
ليبين أن الإيمان ليس حالة عاطفية، بل ممارسة عقلية مستمرة تقوي «البصيرة» التي لا تنمو إلا به.
فالعقل الواعي لا يكتفي بالفهم، بل يعمل بالأسباب دون جمود، ويتقبّل النتائج دون جزع ويدرب نفسه على فهم السنن الربانية خلف كل حدث. يُحسن الفعل، ثم يُحسن التسليم.
وهذه هي البصيرة التي لا تُعفيك من الحركة، ولا تُخيفك من القدر {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.
في اللياقة العقلية يجب ألا تكتفي بطرح السؤال: «لماذا حدث لي هذا؟»، بل تسأل: «ما ينبغي مني أن أفهمه من هذا الحدث؟».
هنا يكون الفارق في الانتقال من عقل يشتكي... إلى عقل يُبصر.
ومن يفهم اللياقة العقلية، يُدرك أن المرونة في التفكير ليست ضعفًا، وأن إعادة النظر في القناعات ليست تذبذبًا، بل نُضج.
ومن يُمارسها، ينجو من ضجيج الانفعال، ويختار أن يُفكر في عالم يُطالبك أن تُعلّق وتُجادل وتُهاجم... دون أن تفهم.
فكما تُمارس الرياضة لتحافظ على جسدك من الترهل، مارس التفكير الواعي لتحفظ عقلك من الجمود.
ولأن هذه الرياضة لا تُرى... ستعرف أنك تمارسها حين تجد نفسك أكثر هدوءًا، وأكثر فهمًا، وحتماً أقل انفعالًا.
حينها فقط، ستعرف أنك بلغت بعضًا من اللياقة العقلية... تلك التمارين الصامتة التي ستقودك لحياة واعية.