رسيني الرسيني
يُثار الجدل حول ما إذا كانت خسائر شركات التأمين تعود إلى التشريعات المرهِقة أم إلى فشل إدارات الشركات في استغلال الفرص في هذا القطاع الحيوي؟. فمن جهة، تفرض الأنظمة على شركات التأمين قيودًا صارمة بشأن نسب الاحتياطي ومتطلبات رأس المال وغيرها من التشريعات المتحفظة التي قد تحد من قدرة الشركات على التوسع أو المجازفة. ومن جهة أخرى، هناك شركات لم تتقن اللعبة بعد، ولم تستوعب كيفية الاستفادة القصوى من التدفقات النقدية المتاحة لديها. إلا أن الإجابة الأقرب للصواب عن سبب خسائر شركات التأمين هي طبيعة صناعة التأمين.
من أجل ذلك، ولفهم طبيعة خسائر شركات التأمين، يجب أولًا إدراك أن التأمين ليس بيع منتج مادي، بل هو شراء خطر، حيث تتعهد شركة التأمين بدفع تعويض مالي عند وقوع حدث سلبي غير مؤكد حدوثه مستقبلًا، مقابل قسط يُدفع مسبقًا من العميل. هذه الطبيعة تجعل شركات التأمين عرضة لتقلبات كبيرة، إذ يكفي حادث كارثي واحد ليؤثر بشكل ضخم على الأرباح، بل ويقودها للخسارة. وبالتالي، تُعد مقارنة قطاع التأمين بالقطاعات الأخرى في جانب الأرباح المباشرة مقارنة غير دقيقة، لأن الهدف الأساسي من الاستثمار فيه ليس تحقيق هامش ربحي من بيع الخدمة مباشرةً، بل الاستفادة من هيكل تدفقاته النقدية والتزاماته المؤجلة في تكوين رافعة مالية مرنة.
هذا المفهوم قد يكون معقدًا أو غير مألوف للمستثمرين التقليديين، لكنه معروف جيدًا لمن يفكر في الاستثمار على المدى الطويل وبإستراتيجية مدروسة، وقد يكون أبرز مثال هو عندما اشترى وارن بافيت شركة تأمين لا بهدف تحقيق أرباح مباشرة، بل لاستغلال التدفقات النقدية الناتجة عن الأقساط كمصدر تمويل منخفض التكلفة لاستثماراته في شركة كوكا-كولا. هذا الاستخدام الذكي للأموال جعل من التأمين رافعة مالية تتيح فرصًا استثمارية ذات عوائد مرتفعة دون الحاجة للاقتراض التقليدي. وهناك مستثمرون إستراتيجيون ينظرون إلى الاستثمار في التأمين لتدوير أموالهم، بحيث يؤمنون على أنفسهم بأنفسهم.
ومن الفوائد المهمة أيضًا التي يحققها المستثمر في قطاع التأمين، ارتفاع قيمة السهم نفسه بمرور الوقت، خصوصًا للشركات التي تُحسن استخدام التدفقات النقدية وتعيد استثمارها بذكاء. فحتى وإن كانت الأرباح التشغيلية محدودة، فإن قيمة الشركة السوقية ترتفع تدريجيًا مما يحقق للمستثمرين مكاسب رأسمالية مجزية. وهنا دعوة للنظر في عدد من الشركات العالمية والمحلية التي تضاعفت قيمة السهم بشكل متكرر نتيجة لاحترافية إدارة العمليات التأمينية، وتعظيم قيمة رأس المال العامل، وتحقيق عوائد من الاستثمارات.
حسنًا، ثم ماذا؟
الاستثمار في قطاع التأمين ليس لمن يبحث عن الربح السريع أو الأرقام الكبيرة في نهاية السنة المالية. بل هو استثمار طويل الأجل وخيار إستراتيجي لمن يفهم دورة رأس المال، وقيمة التدفقات النقدية، وأهمية الرافعة المالية والعوامل الأخرى غير التقليدية.