خالد محمد الدوس
عندما يغيب الموت مربيا فاضلا، ورجلا مثقفا له ثقله ومكانته وقدره الاجتماعي فإن الفقدان لا يقتصر على شخص عابر.. بل تخسر العائلة ونسقها القرابي مكتبة بأكملها، وقلبا نقيا ووفيا كان ينبض بالحكمة والوعي.. روحا زرعت فينا حب القراءة، والاطلاع الواسع.. وحب كل شيء يتعلق بالتراكم الثقافي وبالقيم الاجتماعية والتربوية الأصيلة.
هكذا كان العم الراحل المثقف الشيخ عبد العزيز الدرح -رحمه الله تعالى- الذي مضى على وفاته (عامان) من الحزن والأسى على فراق من اتفق الجميع على محبته لاهتمامه على نشر القيم الثقافية والشيم والفضيلة والأخلاق الفاضلة في نسقنا القرابي. ولا غرو من ذلك فالعم عبدالعزيز كان مدرسة متنقلة في حياته يعلمنا من خلال حديثه الهادئ ومن خلال الكتب التي لم تكن تفارق يديه.. ومن خلال تلك النظرة الثاقبة التي تقول: العلم نور، والأخلاق عنوان الإنسان.. تعلمت من مدرسته التنويرية أن الكتاب خير جليس، وأن الثقافة ليست ترفا بل ضرورة كالهواء والماء.. تنمي الفكر وتبني العقل وتوسع المدرك.. كان يقول رحمه الله (اقرأوا كأنكم ستعيشون إلى الأبد).. وكأنه.. يعلم أن حياته لن تطول فأراد أن يورثنا كنوزه الثقافية وقيمه التربوية قبل الرحيل..!
عامان مرا على رحيلك يا «أبا سعد» جسديا ولكن سيرتك العطرة والذكر الحسن كعطر الكتب القديمة التي كنت تحتفظ بها في منزلك العامر بالتراث الأصيل والكتب الثقافية.. مرا ونحن نفتقد صوتك الحاني الأبوي وضحكتك الدافئة وتوجيهاتك التي كانت كالمنارة في ظلام الحياة.. حين كنت تعلمنا أن الحياة جميلة بالتصالح مع الذات والتسامح مع الآخرين، وأنه ليس من الحكمة صناعة الأعداء..! وقد ورثتنا حب المعرفة.. وإن الثقافة ليست مجرد قراءة بل هي أسلوب حياة.
وعندما تتجه البوصلة نحو قيمه الدينية فقد عرف عنه -رحمه الله- برّه بوالدته (لطيفة بنت عبد الله الزعير) رحمها الله وملازمته لها وكان يقوم على رعايتها ومتابعة أحوالها الصحية بنفسه حتى إنه -كما يروى- كان معظم وقته يقضيه معها وعلى مائدة واحدة..! وكان قليل الحضور للمناسبات الاجتماعية من أجل ملازمة والدته فكان -رحمه الله- نموذجا يقتدى به في خصال البّر. يذكر لي زوج ابنته الأخ (إبراهيم الزعير) بعض المواقف النبيلة عنه التي تنم عن قيم البّر والإحسان.. ومنها أنه كان يستشير والدته -رغم أنها أمية لا تقرأ ولا تكتب ولكنها فاقت الكثيرين ممن يقرؤون بحكمتها وعقلها وموازنتها للأمور- في -الجوانب التي تخص بيته- ويأخذ برأيها حتى لو كان رأيه هو الصواب..! ولكنه كان يحترم رأي والدته ولا يريد أن يجرح مشاعرها في كل الأحوال.
وبعد وفاة والده عاشت والدته عنده وكان بيته في حي الظهيرة ثم في حي الشفا (مفتوحا) يستقبل الأقارب والأحباب وكان كل جمعة يستقبل ضيوفه ويتغدون عنده لأنه كان صاحب كرم وسخاء يقابل أحبابه وأصحابه ببشاشته المعهودة وابتسامته المألوفة.. وأتذكر جيدا في (طفولتي) قبل أكثر من 40 عاما كان في كل صباح يوم (العيد) الخاص بعائلتي الدوس والدرح بحكم القرابة المتعمقة يحضر معه حزمة من الريالات ويوزعها على الأطفال كل واحد يعطيه ريالا.. والريال في ذلك الزمن الجميل له قيمة..! ويشاركهم فرحة العيد ويدخل السرور عليهم حتى أصبح اسم العم (أبو سعد) على كل لسان وفي القلب محفوف بالود والعرفان.!
وبالطبع عمل فقيدنا الغالي في وزارة المعارف وكان مربيا فاضلا وقدوة حسنة وكان خلوقا متواضعا اجتمعت فيه مكارم الأخلاق والعلم والعقل والوعي والثقافة، أحكمته التجارب فزادته حكمة وتواضعا يسكته الحلم وينطقه العلم لا يقول لسانه إلا خيرا. كما عمل في وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، وعمل ضمن نشاطه الثقافي الرصين في (مجلة الدعوة) وكان من محبي القراءة والاطلاع الواسع الذي أسهم في بناء شخصية مثقفة واعية متزنة كسبت محبة وإعجاب الجميع.
كان مجلسه عامرا بالفوائد الدينية والفرائد الاجتماعية والثقافية والكل كان يسعد بالحضور ومجالسته والاستئناس بحديثه الثري عن الماضي الجميل وعن نصائحه الإيمانية التي تصل للقلب قبل العقل من روعة الأسلوب الذي يجذب القلوب.! خاصة أن فقيدنا الغالي اشتهر في محيطنا القرابي بحبه واهتمامه بالتوثيق التاريخي الاجتماعي وبالتراث القديم حتى في شبابه كان الشخص الوحيد الذي وثق جزءاً من تاريخ بعض الأُسر من أهالي الرياض قبل أكثر من (50 سنة) بتصوير المناسبات العائلية ورصد الاجتماعات الفرائحية وتوثيق كل (حدث) بخط يده حتى أصبح المرجع التاريخي الاجتماعي الوحيد في نسقنا العائلي فترك مكتبة ثقافية تراثية في قالبها التاريخي وبالتالي كانت له مكانة خاصة في العائلة لا سيما عند كبار السن الذين كانوا يزورنه أسبوعيا ومنهم والدي -رحمه الله- الذي رغم أنه كان يكبره بـ(20 سنة) كان يزوره كل صباح (أسبوعياً) مع ابن أخته الشيخ عبد الله بن يوسف وخاله محمد بن زعير رحمهم الله. لأنهم كانوا يجدون كل التقدير والاحترام والفوائد من نوعية الحديث الذي يجمع بين الحاضر والماضي في مجلسه العامر بالسخاء والكرم والنبل والذكر وأجوائه الإيمانية التي تدخل السرور على النفس وتجلب السعادة للحاضرين.
رحم الله رجل القيم والمعرفة والثقافة العم الفاضل (عبد العزيز بن محمد الدرح) وأسكنه فسيح جناته وجعل ما أصابه من مرض وسقم تكفيراً للخطايا ورفعة في الدرجات وتغمده الله بواسع رحمته..