أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
يعد «الضوء الفائق الصلابة Super solid light»، حسب التجارب التي أجريت مؤخراً في معهد تكنولوجيا النانو بإيطاليا ونشرت نتائجها في مجلة نيتشر (Nature) في الخامس من مارس 2025م، حالة كمومية من حالات المادة غير التقليدية الأطوار التي تُرتَّبُ الجسيمات المكونة لها في بنية بلورية قابلة للتدفق كالسوائل نتيجة لتسليط شعاع ليزري على شريحة تُشَكِّلُ من أشباه الموصلات المصنوعة من مادة زرنيخيد الغاليوم (Gallium Arsenide). ونتيجة لتفاعل هذه المادة مع الضوء مختبرياً تُبطِؤُ حركة فوتونات الضوء ويتقلّص انتشارها وتُستَحَثُ جزيئاتها لتوليد جسيمات ميكروسكوبية هجينة بين الضوء والمادة تُسمى الاكسيتونات (Excitons) والبلارتونات (Polaritons). وعبر التفاعلات الكهرومغناطيسية القوية تدمج البلارتونات بالفوتونات ضمن مسافة ميكرومترية تجبرها مع تكرار العمليات في بيئة مختبرية ميكروسكوبية دقيقة محكمة الإغلاق على التراص في نهاية المطاف جنباً إلى جنب بشكل منتظم يشبه انتظام جزيئات المادة الصلبة وترتيبها الداخلي منتجة بذلك «الضوء الفائق الصلابة». ونتيجة للتجانس الكمومي والتفاعل بين المادة والضوء وانعدام حالات الاحتكاك بين الوحدات البلارتونية المتراصة يقترن هذا الطور الصلب من المادة في الآن نفسه بحالة كمومية أخرى سائلة من المادة تُسمى «الضوء الفائق السيولة Super Fluid Light». ويعد ما حدث في إيطاليا رغم كونه في مراحله البحثية الأولية خطوة إبداعية متقدمة ومُطَوِّرَةُ بشكل غير مسبوق لأساس مفهوم (تكاثف بوز- آينشتاين «BEC» Bose-Einstein Condensate) الذي استندت عليه التجارب السابقة للتجربة الإيطالية الآنفة الذكر كما سيأتي ذكره لاحقاً في المقال. ومع كل هذا المستوى المتقدم علمياً، لم يصل العلماء بعد إلى المرحلة التي يمكن فيها حرفياً إمساك «الضوء المتصلب» باليد كجسم مادي ملموس. فما حققه العلماء حتى الآن هو إنشاء حالة مجازية شبيهة بالحالة الفائقة الصلابة نتيجة باستخدام الضوء في بيئة محكمة مختبرياً كما أسلفت أعلاه. وهذا يعني بناءَ على ذلك أن «الضوء الفائق الصلابة» هو حالة كمومية غريبة من المادة تجمع بين البنية البلورية والترتيب الكريستالي من جهة والسيولة الفائقة من جهة أخرى، وليس شيئاً من الممكن لمسه أو حمله فعلياً حتى الآن، بل لا يزال الطريق طويلاً قبل أن يرى العلماء الضوء في هذه الحالة الكمومية الصلبة خارج المختبر.للاستزادة في هذا المجال يمكن الرجوع إلى المقال المنشور في مجلة نيتشر في الخامس من شهر مارس عام 2025م حسب التوثيق المرجعي المدوّن بين المعكوفتين التاليتين: (Dimitrios typogeorgos and etc.,2025, Emerging supersolidity in photonic crystal polariton condensate,Nature,639).
من الجدير بالذكر أن «فكرة تشكيل ضوءٍ فائق الصلابة لا تعد بأي حال من الأحوال فكرة معرفية جديدة على الإطلاق كما قد يظن، بل لقد توقع العلماء إمكان حدوثها منذ ستينيات القرن الميلادي الماضي ولكن لم تظهر بشأنها أدلة تجريبية مقنعة إلا مؤخراً. ويجد القارئ أدناه سرداً مختصراً لأهم تلك الدلائل التي أفرزتها التجارب التي أُجريت في بعض دول العالم لإبطاء سرعة فوتونات الضوء قبل التجربة الإيطالية الآنفة الذكر وذلك على النحو التالي:
1- تجربة جامعة هارفارد: تعد التجربة التي أُجريت عام 1999م على يد باحثين في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أشهر التجارب المبكرة التي أدت إلى إبطاء سرعة فوتونات الضوء بشكل كبير أثناء مروره عبر سحابة ذرية فائقة البرودة باستخدام حالة فيزيائية تُعرف باسم «تكاثف بوز-آينشتاين» (BEC). ويحدث هذا التكاثف عندما تُبرَّد فوتونات الضوء إلى درجات حرارية قريبة جدًا من الصفر المطلق الذي يساوي تقريباً -273 درجة تحت الصفر المئوي. ولعل من أهم الأمثلة على ذلك ما قامت به لين هاو التي برَّدت ذرات الصوديوم إلى درجة قريبة من الصفر المطلق مكونة بذلك سحابة غازية وجهت هاو نحوها شعاعاً ليزرياً، فكانت المفاجأة أن انخفضت سرعة الضوء داخل هذه السحابة إلى 17 متراً في الثانية فقط مقارنةً بسرعته المعتادة التي تبلغ حوالي 299,792 كيلومترًا في الثانية في الفراغ، بل وتمكنت لين هاو لاحقًا من حبس أو إيقاف نبضة ضوء داخل هذه السحابة لمدة 30 ثانية كاملة ثم إعادة تحريره أو تشغيله، وهو أمر مذهل بالنظر إلى طبيعة الضوء. ولعل الأكثر إثارة من ذلك أن استطاعت لين نقل السحابة الغازية بينما كانت نبضة الضوء لا تزال محبوسة فيها، مما أعطى الانطباع بِتَجَمِّد الضوء» داخل تلك السحابة (المصدر بتصرف: The Harvard Gazette, University of Harvard, 2001).
2- تجربة جامعة طوكيو: أجرى العلماء في جامعة طوكيو باليابان عام 1999م تجارب على إبطاء وتخزين الضوء في مواد معينة كالكريستالات الفوتونية. وقد تمكن العلماء من خلال هذه التجربة إبطاء سرعة الضوء إلى 60 كم/ ساعة باستخدام مادة تحتوي على ذرات عالية الاستقطاب يمر خلالها الضوء فيتفاعل مع ذرات تلك المادة بطريقة تؤدي إلى تباطؤ سرعته (المصدر: الشبكة العنكبوتية نقلاً عن الذكاء الصناعي).
3- تجربة جامعة كاليفورنيا: تمكن الباحثون في جامعة كاليفورنيا في بيركلي بالولايات المتحدة الأمريكية عام 2001م من إبطاء سرعة الضوء إلى 17 مترًا في الثانية باستخدام طريقة مشابهة لما قامت به لين هاو بجامعة هارفارد. وفي عام 2004م تمكن العلماء في هذه الجامعة من إظهار ضوء بطيء في اشباه الموصلات بسرعة تصل إلى 9.6 كيلومتر في الثانية. كما نجحوا لاحقاً في إيقاف الضوء تماماً ثم إعادة تشغيله (المصدر بتصرف: Wikipedia, Slow Light).
4- تجربة كوبنهاغن بالدانمارك: قام العلماء في كوبنهاغن عام 2001م على إبطاء الضوء باستخدام ظاهرة تُسمى «الشفافية المحثوثة كهربائيًا» (EIT). تتضمن هذه التقنية التحكم في سحب ذرية باستخدام حزم ليزرية، مما يسمح بمرور الضوء عبرها بسرعة بطيئة جدًا، أو حتى «توقيفه» مؤقتًا. وكان للباحثة الفيزيائية في جامعة هارفارد البروفيسور لين هاو الدانماركية الأصل دوراً فاعلاً في تطوير التجارب الدنماركية في هذا المجال وخاصة من خلال مشاركتها في مؤتمر أبحاث النخبة الذي انعقد في كوبنهاجن في السابع من فبراير 2013م (المصدر، لين هاو، ويكيبيديا).
5- تجربة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT): قام الباحثون في هذا المعهد بتجارب لإبطاء الضوء والتحكم في سرعته واتجاهه باستخدام مواد مصممة خصيصًا تُعرف باسم «المواد الفوقية». ويضم المعهد مشروعاً حيوياً للغاية يطلق عليه «سرعة الضوء البطيئة» وهو لعبة فيديو تربط البحث الفيزيائي النظري والحسابي بالبيئة الخيالية لتقديم تجربة جذابة ومجدية تربوياً وفكرياً. وتسمح هذه اللعبة باستكشاف اللاعبين للمفاهيم الفيزيائية المتعلّقة بالنسبية الخاصة كتباطؤ سرعة الضوء وتمدد الزمن وتأثير دوبلر وتحويل لورنتس. كما تمكن اللعبة من استحثاث قدرة اللاعبين على رؤية الأشياء كما كانت في الماضي بسبب زمن انتقال الضوء، ومشاركة إتقانهم وتجربتهم للعبة عبر تويتر (المصدر بتصرف: (MIT Game Lab. Web).
هذا بالإضافة إلى تجارب أخرى أجريت في جامعة قوانغشي والأكاديمية الصينية للعلوم. كما حققت الباحثة الروسية دولفوفا وزملاؤها في جامعة موسكو بالتعاون مع علماء الفيزياء في جامعة تويا هاشي التكنولوجية في اليابان نجاحات في هذا المجال بفضل استخدام ما يُسمى بـ «بلورات فوتونية مغناطيسية». ويعود الفضل في بزوغ فكرة إبطاء سرعة الضوء في اليابان إلى عالم الفيزياء الياباني فيزوتيرو إينوي حسب المصدر التالي: (Applied physical review نقلاً عن «العرب» في الثاني من أكتوبر 2016م).
لا شك أن لمشاهد الخيال العلمي مثل: Halo وPortal وOverwatch التي تظهر الضوء الصلب في العديد من سلاسل ألعاب الفيديو دوراً لا يُستهان به في استحثاث الفكر المعرفي في مجال إبطاء الفوتونات الضوئية وسبرها عبر العديد من التجارب الفيز وكمومية المدهشة الرائدة التي استعرضت بعضاً منها أعلاه. فاستخدم ضوء الشمس مثلاً في Portal 2 لإنشاء جسور من «الضوء الصلب» لتمثِّل ممرات أو حواجز نصف شفافة تعمل كأرضيات أو حواجز صلبة. كما استخدمت شركة «فيشكار» في Overwatch «الضوء الصلب» كمادة للبناء. أما في Halo، فيُعتبر الضوء الصلب أساسًا في أسلحة الـ Forerunners وفي العديد من أجهزتهم العملية مثل الجسور الضوئية القابلة للسحب. كما تظهر الهولوجرامات الصلبة (solid holograms) في مسلسل الخيال العلمي Star Trek وRed Dwarf والرسوم المتحركة Steven Universe التي تظهر العديد من الشخصيات الرئيسية في تلك المشاهد ككائنات فضائية لها أجساد مادية مصنوعة من الضوء حسب المصدر التالي بتصرف: (Wikipedia web, Ent. Solid light, Pt., Fiction). وهناك أمثلة عديدة أخرى في هذا المجال لا تتسع المساحة المخصصة لهذا المقال من ذكرها في الوقت الراهن.
في نهاية هذا المقال أود الإشارة إلى أن التجربة الإيطالية في مجال إبطاء الفوتونات وتوليد المواد الضوئية الفائقة الصلابة ستفتح أبواباً تطبيقية مثيرة غير مسبوقة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: استخدام هذه المواد في بناء مكونات الحواسيب الكمومية والتشفير الكمومي وتقنيات الاتصالات الكمومية. كما يؤدي استخدام هذه المواد إلى تطوير تقنيات النانو والمغناطيسات الفائقة الأنماط التي ربما من الممكن توظيفها مستقبلاً في مجالات مثل التصوير بالرنين المغناطيسي أو في مختلف تطبيقات الطاقة، بل وفي الفهم الأعمق للفيزياء الأساسية والظواهر الكمومية.