في خضم مسيرة التحولات العميقة التي تقودها المملكة العربية السعودية ضمن مستهدفات رؤية 2030 ووسط عالم اقتصادي يتغير بوتيرة متسارعة، لم تعد مؤشرات النمو التقليدية كافية لتقييم فعالية الأداء الاقتصادي. ففي بيئة ما بعد اقتصاد الريع، باتت الكفاءة والإنتاجية والابتكار هي الحوامل الحقيقية للنمو المستدام. وفي هذا السياق، يكتسب مؤشر إجمالي عوامل الإنتاج (Total Factor Productivity - TFP) أهمية متزايدة، كونه يعكس القيمة «غير المفسرة» من النمو - تلك الناتجة عن تحسن التنظيم، وتبني التقنية، وتراكم المعرفة، وليس فقط عن التوسع الكمي في العمالة أو رأس المال.
ولعدة عقود، ارتكزت استراتيجية النمو في المملكة على التوسع في المدخلات، من زيادة في عدد العاملين، وتوسع في الإنفاق الاستثماري، مستفيدة من ارتفاع أسعار النفط. لكن هذا النمط من النمو بلغ حدوده، وبدأت نتائجه تتضاءل، إذ إن تراكم رأس المال لا يُنتج بالضرورة نمواً فعّالاً ما لم يُرافقه ارتفاع في الإنتاجية. ولذا لا يمكن فهم إجمالي عوامل الإنتاج في السياق السعودي دون الربط المباشر بالاقتصاد المعرفي، الذي يُعد المحرك الأعمق والأكثر استدامة لنمو الإنتاجية. فحين يصبح رأس المال المعرفي - من بيانات ومهارات وتكنولوجيا - هو القاعدة التي تُبنى عليها القرارات الاستثمارية والتنموية، يمكن الحديث فعلاً عن تحول هيكلي. وفي هذا الإطار، لا يمثل إجمالي عوامل الإنتاج مؤشراً تقنياً فحسب، بل انعكاساً لمستوى التوظيف الفعّال للمعرفة داخل النظام الاقتصادي، سواء من خلال التعليم عالي الجودة، أو البحث التطبيقي، أو شبكات الابتكار التشاركي بين القطاعين العام والخاص.
وبقراءة الاتجاهات التاريخية، اتخذ مؤشر إجمالي عوامل الإنتاج مساراً متقلباً، ففي عام 1982، بلغ هذا المؤشر مستوىً سالبًا حادًا عند -30.3، ما يعكس ضعفاً في كفاءة تعظيم المخرجات، ثم ارتفع إلى +10.65 في عام 1990. لكنه عاد إلى التذبذب حتى العقد الأخير، حيث بدأت ملامح الاستقرار تظهر، وإن بقي المؤشر في أغلب الأوقات ضمن النطاق السلبي، مما يعكس استمرار فجوات الكفاءة والإنتاجية. إلا أن التحول الحقيقي بدأ مع إطلاق رؤية 2030. فبين عامي 2022 و2024، ارتفع المؤشر تدريجياً إلى +1.78، وهو ما يُعد تحسناً ملموساً، مدفوعاً بإصلاحات هيكلية، واستثمارات نوعية في رأس المال البشري، والتحول الرقمي، وتحفيز مساهمة القطاع الخاص، (الرسم البياني رقم1).
على الرغم من نمو إجمالي تكوين رأس المال الثابت بنسبة 28.6 % عام 2023 (ليصل إلى 1.33 تريليون ريال)، إلا أن تأثيره الاقتصادي الفعلي لا يتحقق إلا بارتفاع الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج، فاستثمارات البنية التحتية والمعدات - مهما بلغ حجمها - لا تولّد نمواً مستداماً ما لم تُصمَّم بذكاء وتُدار ضمن أنظمة مؤسسية كفؤة. وتكمن هنا العلاقة التكافلية بين الجانبين: فـالاستثمار النوعي يعزز إنتاجية عوامل الإنتاج، بينما يحفز ارتفاع هذه الإنتاجية ثقة المستثمرين ويدفعهم لضخ استثمارات جديدة. هذه الحلقة التكاملية تُمكّن الاقتصاد من تحقيق أعلى العوائد بأقل الموارد.
ويرتبط بهذا المحور مؤشر التعقيد الاقتصادي - الذي يقيس تنوع المنتجات وتعقيدها - كمكمل استراتيجي للإنتاجية الكلية. فالتنويع الاقتصادي يخلق بيئة خصبة لتطبيق المعرفة وتبادل الخبرات وتحفيز الابتكار، وهي عناصر جوهرية لتعزيز الإنتاجية. وقد تجسد ذلك في السعودية بارتفاع المؤشر تدريجياً من مستويات متدنية (بين 0.1 و0.2 نتيجة الاعتماد الأحادي على النفط لعقود) إلى 0.78 عام 2021، قبل أن يتراجع قليلاً على 0.57 في 2023. وإن هذا التحول جاء نتيجة استثمارات مُوجَّهة لقطاعات واعدة كالتقنية والتصنيع المتقدم والسياحة والترفيه، التي تُعوّل على الكفاءة والابتكار أكثر من الموارد الأولية، (الرسم البياني رقم 2).
إذا أردنا تجاوز الرصد الوصفي إلى التفكير الاستراتيجي، يمكننا أن نطرح السؤال الجوهري: ما هي المعادلة السعودية لرفع إجمالي عوامل الإنتاج؟ بناءً على البيانات والتحولات الأخيرة، يمكن تأطير معادلة إجمالي عوامل الإنتاج الناجحة في السعودية على النحو التالي:
إجمالي عوامل الإنتاج = (رأس مال بشري نوعي + مؤسسات ذكية + منظومة ابتكار وطنية + تنوع إنتاجي معولم + اقتصاد معرفي فعّال) ÷ (التقلبات الهيكلية + الاعتمادية الريعية + فجوات الحوكمة).
ولا شك أن هذه المعادلة تقترح أن رفع الكفاءة لا يرتبط فقط بالعنصر الاقتصادي التقني، بل بمستوى نضج المنظومة المؤسسية وقدرتها على التحول الذكي، فكل نقطة ضعف في التعليم، أو في الحوكمة، أو في البيئة التنظيمية، تمثّل كبحًا لرفع إجمالي عوامل الإنتاج، مهما بلغت الاستثمارات. بيد أن تطور مؤشر إجمالي عوامل الإنتاج في السعودية لا يجب أن يُنظر إليه كرقم عابر ضمن تقارير اقتصادية، بل كبوصلة استراتيجية لمستقبل الاقتصاد الوطني، فكلما ارتفعت الإنتاجية، انخفضت الحاجة للاعتماد على النفط، وتزايدت قدرة الاقتصاد على خلق فرص عمل مستدامة، وتحقيق نمو أعلى من معدل الزيادة في المدخلات.
لذلك، فإن المسار المطلوب خلال السنوات المقبلة يتمثل في تعميق إصلاحات سوق العمل والتعليم التقني، إضافة الى استقطاب وتوطين التقنية لا عبر الشراء، بل عبر التمكين المؤسسي، وأيضا توسيع قواعد التصدير وتنوع المنتجات الوطنية، وربط الاستثمارات العامة بقياسات الأداء الإنتاجي، لا بحجم الإنفاق فقط وكذلك بناء منظومة وطنية للابتكار القائم على المعرفة، تربط بين الجامعات ومراكز البحوث والقطاع الصناعي، بما يعزز من تحويل البحث العلمي إلى تطبيقات تجارية قابلة للنمو والتصدير.
ختاما، لم تعد معركة الاقتصاد السعودي معركة أرقام مطلقة تُقاس بحجم الإنفاق أو معدلات النمو الخام، بل أصبحت معركة جودة نسبية، حيث يشكّل إجمالي عوامل الإنتاج مرآة صادقة لمدى قدرة الاقتصاد على تحقيق «النمو الذكي» - ذلك النمو الذي يولّد مخرجات أكبر من مدخلات أقل، ويتكيّف مع المتغيرات العالمية دون أن يتخلى عن ثوابته الوطنية. إنه التحدي الجوهري لاقتصاد ما بعد النفط، واقتصاد المستقبل.
ومن زاوية الاقتصاد المعرفي والابتكاري، فإن المسار التنموي للمملكة لا يُختزل في ضبط التوازنات المالية أو تحسين كفاءة التشغيل فحسب، بل يتطلب إعادة تعريف القيمة الاقتصادية نفسها- قيمة تُنتج من تراكم المعرفة، وتُضاعف من خلال منظومات الابتكار، وتُدار كأصل سيادي لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة.
** **
د. هدى منصور - أستاذ الاقتصاد المتخصص بتحليل البيانات والابتكار الاقتصادي