د. الجوهرة بنت فهد الزامل
تأتي المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص اليوم في قلب استراتيجية رؤية 2030 كرافعة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة والازدهار المجتمعي والاقتصادي. لم تعد المسؤولية الاجتماعية مجرد واجب أخلاقي، بل تحولت إلى أداة فاعلة تسهم في بناء مجتمع متكامل يحقق العدالة الاجتماعية ويرتقي بجودة الحياة. ورغم تنامي المبادرات، تظل تساؤلات جوهرية مطروحة: ما مدى التزام الشركات فعليًا؟ من يحدد الأولويات؟ ومن يقيس الأثر؟ في كثير من الحالات، تُمارَس المسؤولية الاجتماعية كأداة علاقات عامة تُجمّل الصورة، أكثر من كونها شراكة حقيقية تحدث أثرًا مستدامًا. والسؤال الأهم: لماذا، رغم زخم الخطاب وتعدد المبادرات، لا تزال المسؤولية الاجتماعية ملفًا هامشيًا في السياسات التنموية؟.
حين تتحول المسؤولية الاجتماعية إلى نشاط شكلي
غالبًا ما تُمارس المسؤولية الاجتماعية كأداة تسويق أو ترويج للعلامة التجارية، مما يُفقدها معناها التنموي. لا يعني هذا أن المبادرات غير ذات قيمة، لكن رغم وجود أُطر تنظيمية، فإن ضعف التنسيق والتنفيذ يحولها في كثير من الأحيان إلى نشاط موسمي بلا أثر دائم. فبدون ربط هذه المبادرات بالتزامات واضحة ونتائج قابلة للقياس، تظل الجهود متناثرة وغير فاعلة في تلبية احتياجات المجتمع الحقيقية.
ما الذي يعيق التحول إلى شراكة حقيقية؟
ثمّة فجوات بنيوية تعرقل بناء نموذج وطني فاعل للمسؤولية الاجتماعية:
- رغم أن الوزارة هي الجهة المرجعية، إلا أن محدودية التنسيق بين الجهات تُسهم أحيانًا في تكرار الجهود أو غيابها عن المناطق ذات الأولوية.
• غياب إطار ملزم، حيث تظل المسؤولية الاجتماعية طوعية في معظم القطاعات.
• ضعف الاعتماد على التحليل الرقمي في توجيه المبادرات بناءً على بيانات دقيقة ومحدثة.
• تحقيق ربط فعّال بين الأداء المجتمعي والحوافز الحكومية يُعزز دافعية الشركات للالتزام الحقيقي.
تكامل الأدوار: المسؤولية تبدأ من وضوح القيادة
في ظل تصاعد الحاجة إلى مساهمات القطاع الخاص في سد الفجوات الاجتماعية، تبرز وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بوصفها الجهة المسؤولة عن ملف المسؤولية الاجتماعية، والأكثر دراية بالاحتياجات المجتمعية. وقد قطعت شوطًا في بناء السياسات، لكنها بحاجة إلى الانتقال من دور الإشراف العام فقط إلى دور القيادة الاستراتيجية الفاعلة. غياب منظومة وطنية متكاملة تربط بين التشريع والتوجيه والتحفيز والمساءلة هو التحدي الأساسي وليس ضعف الجهود. كما لا تزال بعض الشركات تتعامل مع المسؤولية الاجتماعية كنشاط علاقاتي، لا كجزء من حوكمتها المؤسسية. لذا، تحتاج الوزارة إلى أدوات وقدرات تتيح تحويل المبادرات المتفرقة إلى استراتيجية تنموية شاملة تعزز الاستدامة والتكامل بين القطاعين العام والخاص.
كيف نُعيد رسم العلاقة دون إعادة اختراع العجلة؟
ما نحتاجه ليس حلولًا مثالية، بل إعادة ضبط العلاقة على أساس واضح: الدولة تدعم، والشركات تلتزم، لا بمنطق العطاء العشوائي، بل عبر مساهمات مدروسة ذات أثر. ويمكن تحقيق ذلك من خلال ثلاثة مسارات واقعية:
1 - احتساب العائد الاجتماعي ضمن تقييم الشركات، أسوة بالمخاطر المالية.
2 - تطوير أداة تحليل ذكية تُحدّث دوريًا لربط مساهمات الشركات بالاحتياجات المحلية الدقيقة.
3 - إطلاق تجارب مجتمعية مصغّرة لتقييم الأثر من منظور السكان، وليس فقط من تقارير الشركات.
المسؤولية ليست ملحقًا للتسويق
على الشركات أن تعيد تعريف المسؤولية الاجتماعية داخل هيكلها الإداري. فهي ليست من مهام العلاقات العامة أو التواصل المؤسسي، بل جزء من الحوكمة، وينبغي أن تكون تحت مظلة لجنة المخاطر والامتثال.
حينها، يتحول الإنفاق الاجتماعي إلى أداة استراتيجية لإدارة السمعة، وخفض المخاطر، وتحقيق التوازن مع المجتمع دون الحاجة لخطاب دفاعي.
نماذج دولية للاطلاع لا للنسخ
الاستفادة من التجارب الدولية لا تعني النسخ، بل فهم الفلسفة الكامنة وراء السياسات، وتكييفها مع السياق المحلي:
الهند: ألزمت الشركات بتخصيص نسبة من أرباحها للمجتمع وربطت ذلك بالمساءلة والتقارير السنوية.
وفي بريطانيا: اعتمدت على قياس العائد الاجتماعي كأداة تقييم، لا كقيد تنظيمي. والإمارات: قدمت نموذجًا مرنًا ربط الأداء المجتمعي بالامتيازات التنظيمية دون إرهاق بيروقراطي.
نماذج محلية تعكس التحديات والفرص
من التجارب السعودية اللافتة: برنامج “مسؤول” الذي أطلقته وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية لرفع وعي الشركات وربط مساهماتها بالاحتياجات الفعلية للمجتمع. ويمثل خطوة مهمة في تحقيق رؤية السعودية 2030 بتمكين القطاع الخاص كمحرك تنموي فعال.
لكن لا تزال بعض الشركات تحصر مسؤوليتها في مبادرات تسويقية سطحية. وما زال البرنامج بحاجة إلى تعميق الشراكات، وتطوير أدوات قياس الأثر، وبناء آليات مساءلة شفافة. كما أن ضبط مساهمات القطاع الخاص ضمن إطار ذكي وشفاف، يمكّن من توجيه الموارد العامة نحو أولويات استراتيجية.
أبرز التحديات التي تعوق الأثر الحقيقي للمسؤولية الاجتماعية:
- ضعف التوعية: لا تزال بعض الشركات ترى المسؤولية الاجتماعية نشاطًا جانبيًا لا جزءًا من استراتيجيتها.
- محدودية التحليل الرقمي: غياب أدوات تعتمد على البيانات الدقيقة.
- نقص الشفافية والمساءلة: لا توجد آليات واضحة لتقييم الالتزام.
- تفاوت الالتزام: من حيث الموارد، والجدية، والاستدامة.
- تطوير الإطار التشريعي يُسهم في رفع كفاءة الحوافز والالتزامات.
- طغيان المبادرات التسويقية: على حساب المشاريع التنموية المستدامة.
- ضعف التنسيق مع الجهات التنموية والمجتمعية.
- غياب أدوات قياس موحدة للعائد الاجتماعي.
- الحاجة إلى محفزات عملية تضمن الالتزام المستمر.
نتائج ضبط منظومة المسؤولية الاجتماعية على التنمية
ضبط منظومة المسؤولية الاجتماعية بحوكمة قوية وأدوات فاعلة لا يرفع فقط جودة مساهمات القطاع الخاص، بل يعيد تشكيل المشهد التنموي بالكامل. عندما تتكامل الجهود وتُدار بذكاء، يمكن سد الفجوات بفعالية، واستهداف الفئات الأشد احتياجًا بدقة، بما يعزز العدالة الاجتماعية وجودة الحياة. كما يحفز هذا النهج شراكات ابتكارية، ويكرس الالتزام التنموي لدى الشركات، ويعزز من بناء اقتصاد متوازن وواعٍ اجتماعيًا. وفي بُعده المالي، يعزز هذا النموذج دور القطاع الخاص في سد الفجوات المجتمعية، ويزيد من كفاءة توزيع الموارد العامة.
من مبادرة موسمية إلى رافعة وطنية
المسؤولية الاجتماعية ليست ترفًا، ولا تجميلًا لصورة الشركات. وهي ركن من أركان الاستقرار الوطني، وعدالة الفرص، والتوازن الاقتصادي. وحين تُعاد صياغتها كمكوّن جوهري في العقد التنموي بين الدولة والقطاع الخاص، ستتحول من مبادرة موسمية… إلى رافعة وطنية تساهم في تحقيق رؤية 2030، وتدعم بناء تنمية مستدامة تشاركية بحق.
** **
- متخصصة في السياسات والتخطيط الاجتماعي