أ.د.عثمان بن صالح العامر
حديث المجتمع الحائلي هذه الأيام تبرع د. أسامة بن سعود الجميل (رئيس قسم طب الطوارئ في مستشفى الملك خالد بحائل)، بجزء من كبده لطفلة لم تتجاوز السنة الأولى من عمرها، لينهي -بعد الله- بهذا الصنيع معاناة طفلة رضيعة كانت تعاني وتتوجع وتصرخ وتبكي بلا انقطاع جراء تليّف الكبد لديها.
وسر الحديث الواسع، والاحتفاء الواضح لدى شريحة عريضة من المجتمع الحائلي بصنيع المعروف الذي قدَّمه شاب ينظر للحياة بمنظار الأمل العريض القادم، ليحيى نفساً ما زالت في مرحلة الطفولة، إنه لا يعرف هذه المتبرع لها من قبل، ولا تربطه بها أي صلة أو قرابة، ودون أن يسبق ذلك ويواكبه ضجيج الإعلام الجديد، ولا حتى معرفة من حوله بما هو عازم عليه.
لم يقل أسامة هذه طفلة، هذه ليست من أقاربي، هذه لا أعرفها، وفي نفس الوقت، أنا دكتور استشاري، متخصِّص في طب الطوارئ، وعملي يفرض عليَّ أن يمر بي حالات إنسانية كثيرة، أتعاطف معها، تهز مشاعري، تحرك أشجاني، فهل كل حالة تثير ما بداخلي من مكنونات النفس سأقف معها..؟ سيل من المبررات والمعوقات والمهددات التي يسوقها كل منا لو كان مكانه، ساعات، بل ليال وأيام يمضيها أحدنا قبل أن يصنع المعروف ذا الصلة المباشرة بأن يجود المرء بنفسه طلباً لما عند الله ليس غير.
لقد غرَّد والد د. أسامة، سعادة الأستاذ المربي الفاضل: سعود بن حمود الجميل بعد أن أجرى ولده العملية قائلاً: (ابني الدكتور أسامة حفظك الله ورعاك، منذ عام كنت فخوراً فيك عند حصولك على البورد السعودي وتوليك رئاسة طوارئ مستشفى الملك خالد بحائل، واليوم زادني فخراً فيك إنقاذك بعد الله حياة طفلة بتبرعك لها لوجه الله بجزء من كبدك. أنت بطل، وهبت الحياة لها بفضل تبرعك، أنت مثال للإنسانية والعطاء، شكراً لك من القلب).
وما هي إلا دقائق حتى تتابعت التغريدات، وكُتب في القروبات والمنتديات، وتُحدث عن معروفه في المجالس والشبات، وتوالت الاتصالات بأهله وأقاربه وذويه وأصدقائه المقرَّبين له، فخورة بهذا النموذج من أبناء الوطن أصحاب صنائع المعروف، وفعل الجميل، معبِّرة في ذات الوقت عمَّا يختلج في داخلها من مشاعر الفخر والاعتزاز.
إن وجود مثل هذه النماذج في شريحة شباب الوطن (المملكة العربية السعودية) تبرهن وتدلِّل على أننا بخير، وأن البذل والعطاء طلباً للأجر الأخروي تجاوز الجود بالجاه والمال إلى النفس، فها هو أسامة الشاب (رقَّ قلبه لطفلة بريئة تعاني من الفشل الكبدي، فبادر وتبرع لها لينقذ حياتها، وهب جزءًا من جسده طواعيةً وحباً لفعل الخير، من أجل أن يمنح طفلة لا تعرف معنى للحياة الهانئة من قبل، لذة حياة جيدة جديدة بإذن الله). إنه باختصار (مثال حي للإنسانية والعطاء بلا حدود، صنيع جميل لا يصدر إلا من رجل نبيل وشهم وكريم، تربى منذ نعومة أظفاره على بذل الخير للغير بلا حدود أو قيود، نال شهادة الأخلاق قبل أن يتسلَّم بورد الطب، وحق لوالديك، لأقاربك، للأصدقاء، للمعارف، لحائل أجمع، الفخر بك وبأمثالك من شباب الوطن الذين جمعوا بين العلم النافع، ودماثة الخلق، ورقي التعامل، والبعد الإنساني المرهف، والإحساس بمواجع الآخرين، شباب استطاعوا -بعد توفيق الله لهم- الانتصار على أنفسهم لا لأنفسهم، والتعالي عن الانتماءات الضيِّقة، والحسابات الدنيوية الصرفة، يبادرون، يفعلون، يبذلون، طلباً لما هو خير وأبقى، ومثلك يستحق -مثل غيره ممن يقدمون للوطن ما هو خير- اعتلاء مناصب التتويج، ونيل الأوسمة والجوائز، فنحن في وطن يعلي شأن التطوع ويقدِّر أهله وصانعيه، وأنت فيما قمت به قدمت درساً في الإيثار، وأفصحت عن حقيقة الكرم ومعنى الجود، وأبنت عن رقي المشاعر، وحسن التربية، وصدق البذل والعطاء. سطرت في سجل التاريخ عنواناً جديداً في التكافل والتكاتف والترابط الاجتماعي الحائلي، والحمد لله على سلامتكما، وفي الوقت نفسه أظهر مجتمعنا الحاتمي جراء تفاعله الإيجابي مع هذا الحدث كم هو مجتمع رائع متميز متكاتف، يحتفي بأبنائه الإيجابيين، ويقدِّر ويثمِّن ويشكر المبادرين فاعلي الخير، صانعي المعروف، فالشكر للجميع، ولا أراكم البارئ مكروهاً، وإلى لقاء، والسلام.