منيرة العصيمي
لم يسبق لي أنْ عرفت شعور الرحمة إلا منهم. ولماذا حملتُ علبة المنديل؟ ألأجل أن أمسح دموعًا جارية؟ فبمجرد أنني هممت بالكتابة عنهم وهم من حولي يبثون رسائل المحبة والسلام بأصواتهم التي تملأ المكان وبلغة لا يفهمها إلا المحظوظون، ومن التقت قلوبهم النقية بأرواحهم الطاهرة. فرقَّ قلبي وذرفت عيناي عبراتٍ جَذلة.
كنت أظن بأني أعيش إنسانيتي مع كل ما حولي حتى عشت معهم معظم أوقاتي. فقد درسوني منهاجًا في الرحمة وهذبوا بشريتي التي كانت في أحيان كثيرة ما تقسو على إنسانيتي وتقيدها.
استعدتْ إحدى صغيراتي قبل وقت الانصراف وأمها تجمع كراساتها وأقلامها وتضعها في الحقيبة. فسارت بمرح نحو باب الخروج ووالدها ينتظرها من خلفه. وما أقبلت إليه إلا به يمسك بيدها ويعبران الشارع ملتفتًا يمينًا كي يسيرا بأمان. وأمها من خلفهما تسارع الخُطا واصلة إليهما وهي تقاوم الإعياء. فالصمود لا بد منه، والقوة تستدعى كل دقيقة من اليوم لأجل هذه الابنة النقية. ولا تنام الأم الرحومة حتى تنام طفلتها ثم تصحوان معًا بعدما يسفر الصباح عن شعاع رحلتيهما المستمرتين في كل حياتيهما فيختار الله لهما قدرًا حُلوًا.
أجترع الماء على دفعات فلم أرتوِ منه بعد. ويداي ترتجفان متوترتين، ودموعي تقطر أنهارًا. ولأنها تريد أن تتجدد، وتتجدد نفسي مثلها. ولكن بقيتُ عشرين دقيقة على حالتي هذه. ثم أحدثها فأقول: إلى متى؟ وأنتِ التي تقولين دومًا كم أنا محظوظة بهم! ما الذي يؤلمك؟ ولماذا تنهارين إذا التقيتِ بهم؟ ولربما أختارك القدر لأن تكوني لهم عونًا، ويكونوا لكِ معلمين. ثم لا يعلمنا إلا من هو قادر على أن يكون لنا معاونًا. فنحن بحاجة المعلم، وليس هو الذي بحاجتنا. وصغارنا هؤلاء يعلموننا دون هوادة، ولا يتأخرون عن مساندتنا. فمن أين أتينا بالثقة بأننا نقدم لهم قسمتهم من العون؟ أي غرور يكسونا، وأي تكبر يتلبسنا؟
دموعي التي سالت تلك هي مقرونة بضعفي، أعرف ذلك، فهذه الهشاشة تخبرنا نقيض ما نخدع به أنفسنا والضعف المذموم يدفن في كل مرة فلا يقدر على الكشف عندما يكون تظاهرنا بالصلابة متجبر عليه فيتوارى هذا الضعف محاذرة تظاهرنا بالشدّة.
اعترفت بانكسار قلبي عندما نزعت الخاتم من أصبعي، ووضعته بجانب قلمي، فمسحت براحة كفي على الأخرى بعدما لاحظت انتفاخ موضعه. وكأن دمي ينتظر مني عهدًا له بأن تسري همتي في عروقي فيغدو كل ما بداخلي سرورًا وحبًا واستبشارًا. ثم لونت القلب الذي رسمته أعلى الصفحة بعدما كفت دموعي وأشرقت عيناي شمسًا في مغرب الأمس. ومدينتي تحتفي بزوارها الكرام، والمقهى الذي سأقصده يحتفي بضيوفه الملهمين. ثم أسأل نفسي: كم علبة رشفتُ ماءها، وكم قطعة منديل تجرعتْ دموعي، وكم مقطوعة لعمر خيرت زارت مسمعي فصُمّت؟ ثم تسألني ذائقتي: كيف كان طعم القهوة؟ فأجيبها: مرة. فتتشابك أصابعي خلف رأسي، وأرفع بنظري نحو حبال تتدلى منها عشرة أنوار صغيرة ومضيئة، وواحدة منطفئة. وقطة تتهادى على الرصيف من أسفل مستوى نظري فلا أنا أكترث بها، ولا هي تكترث بمصابيحنا، ولا الكون يكترث بمن يسبح في فضائه. ولن يهتم بشؤوننا سوى قلوبنا الرحومة، وأرواحنا عندما تعرج إلى السماء وتنعطف إلينا. ولكن هذه المرة حاملة معها رسالاتنا إلى هذه الحياة.