د. سفران بن سفر المقاطي
حضرت مؤخرًا ندوة بعنوان «التمسك بالهوية الحضارية والذاكرة التاريخية في شعر مخدوم قولي» بتنظيم دارة الملك عبدالعزيز ومعهد مخدوم قولي في تركمانستان، وذلك في مقر الدارة بالرياض يوم 23 يونيو 2025م، حيث ألهمتني هذه التجربة للعودة إلى تاريخ دارة الملك عبدالعزيز، التي تأسست عام 1972م بمبادرة من الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- لتكون مركزًا وطنيًا لحفظ الوثائق وتوثيق تاريخ المملكة، ولتصبح اليوم من أهم المؤسسات الثقافية والمعرفية في المملكة العربية السعودية.
تحمل الدارة على عاتقها مسؤولية حفظ وتوثيق تاريخ المملكة والجزيرة العربية، والحرمين الشريفين، مع التركيز على سيرة مؤسس المملكة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه-. ومنذ نشأتها، اتجهت الدارة نحو بناء منظومة متكاملة من العمل المؤسسي، حيث يعمل فيها فريق من الباحثين والمؤرِّخين والخبراء تحت إشراف صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز، رئيس مجلس إدارتها، يكرسون جهودهم لجمع وتصنيف وحفظ ملايين الوثائق التي تشكل فسيفساء الذاكرة الوطنية السعودية. وتمتد هذه الوثائق بين مراسلات رسمية، ومعاهدات دولية، وصور فوتوغرافية نادرة تلتقط لحظات محورية في تاريخ المملكة، وخرائط قديمة توثق تطورات الجغرافيا والعمران، لأن قيمة الوثيقة الحقيقية تكمن في قدرتها على إضاءة الحاضر ورسم ملامح المستقبل، وليس مجرد حفظ الماضي. ومن هنا، تتضح المكانة المحورية للدارة في بناء ذاكرة جماعية متماسكة تمنح الهوية السعودية عمقًا وصلابة في مواجهة تحديات العصر.
ولم تقتصر جهود الدارة على الوثائق الورقية فحسب، بل أولت اهتمامًا خاصًا بالتاريخ الشفوي، من خلال مشروع رائد يهدف إلى توثيق الروايات الحيَّة لشخصيات عاصرت أحداثًا وتحولات كبرى في تاريخ المملكة. هذا المشروع يضفي بعدًا إنسانيًا دافئًا على السردية التاريخية، فيحمل نبض الحياة وتفاصيلها الدقيقة التي قد تغيب عن السجلات الرسمية. وفي الوقت ذاته، تحتضن مكتبة الدارة آلاف المخطوطات والكتب النادرة، التي تخضع مع الوثائق لعمليات ترميم دقيقة بالاستعانة بأحدث التقنيات العلمية.
ولأن التاريخ لا يكتمل دوره إذا ظل حبيس الأرفف، بادرت الدارة إلى نقل هذا الإرث العريق إلى الفضاء العام، محولة إياه إلى تجربة تفاعلية حيَّة. فمعارضها الثقافية، التي تنظّمها داخل المملكة وخارجها، أصبحت محطات مضيئة في المشهد الثقافي السعودي والعالمي. ومن خلال توظيف أحدث تقنيات العرض التفاعلي والواقع الافتراضي، نجحت الدارة في تحويل السرد التاريخي إلى عالم نابض بالحياة، يمكّن الزوار على اختلاف أعمارهم من التجول بين أحداث الماضي وشخصياته المؤثّرة. وقد كان لهذه المعارض حضور بارز في محافل دولية مرموقة، مثل معرض فرانكفورت الدولي للكتاب ومنصات اليونسكو للتراث العالمي، حيث قدمت الدارة صورة المملكة كدولة تعتز بتراثها وتعمل على صونه وفق أحدث المعايير الدولية. وفي إدراك عميق لأهمية بناء الوعي التاريخي لدى الأجيال الجديدة، أطلقت الدارة مبادرات نوعية تستهدف الشباب. فمبادرة «المؤرِّخ الصغير» مثلاً، لا تقتصر على تزويد الطلاب بالمعلومات التاريخية، بل تسعى إلى غرس شغف البحث والتوثيق لديهم، من خلال تشجيعهم على جمع القصص الشفوية من عائلاتهم ومجتمعاتهم المحلية، وهو ما يعزِّز لديهم الشعور بالانتماء والارتباط بجذورهم. كما تتجلَّى جهود الدارة في التعاون الوثيق مع وزارة التعليم، عبر تطوير المناهج الدراسية وإثرائها بمواد تاريخية متنوعة، تفتح أمام الطلاب آفاقًا أرحب لفهم السياق التاريخي لوطنهم وتقديره، لأن ربط النشء بتاريخهم ليس ترفًا فكريًا، بل هو ضرورة لبناء شخصية وطنية متوازنة وقادرة على التفاعل الإيجابي مع العالم، وترى أن مبادرات الدارة تبني جسرًا معرفيًا وعاطفيًا بين الجيل الجديد وماضيه، وهو حجر الزاوية في أي مشروع وطني ناجح.
وفي ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، ومع انطلاق رؤية المملكة 2030م، تبنت الدارة توجهًا عالميًا طموحًا، مدركة أن رسالتها لا تقتصر على الفضاء المحلي، بل تمتد لتكون جسرًا ثقافيًا يربط المملكة بالعالم. وقد عزَّزت الدارة من شراكاتها مع كبريات المؤسسات الأكاديمية والبحثية المحلية ومراكز الأرشيف الدولية، مثل مكتبة الكونغرس الأمريكية والأرشيف الوطني البريطاني والمكتبة الوطنية الفرنسية، حيث لم تقتصر هذه الشراكات على تبادل الخبرات فحسب، بل شملت تنفيذ مشاريع بحثية مشتركة، وترجمة الإصدارات السعودية العلمية إلى لغات عالمية، بما يسهم في تقديم صورة دقيقة وموثوقة عن تاريخ المملكة وحضارتها للمجتمع الدولي. كما أحدثت المنصات الرقمية للدارة نقلة نوعية في مجال إتاحة المعرفة، إذ تتيح للباحثين والمهتمين حول العالم تصفح ملايين الوثائق والصور والمخطوطات بسهولة ويسر، ما جعل التراث السعودي إرثًا إنسانيًا مشتركًا يساهم في إثراء الثقافة العالمية.
ولا يمكن الحديث عن مسيرة الدارة دون الإشارة إلى الدعم الكبير الذي حظيت به من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- الذي ارتبط اسمه ومسيرته بتاريخ الدارة منذ سنوات طويلة. فمنذ صدور قرار مجلس الوزراء عام 1417هـ بإعادة تشكيل مجلس إدارتها تحت رئاسته، شهدت الدارة انطلاقة جديدة وموجة تحديث شاملة، انتقلت بها من مؤسسة بحثية متخصصة إلى كيان وطني شامل يتميز بعمل مؤسسي منظم ورسالة واضحة تجمع بين الدقة العلمية والمسؤولية الوطنية. وقد أسهمت هذه الرعاية الملكية المستمرة، قبل توليه مقاليد الحكم وأثناءها وبعدها، في تراكم خبرات الدارة وتزايد إنتاجها المعرفي وتعاظم حضورها في المشهد الثقافي السعودي، حتى أضحت اليوم بعد أكثر من نصف قرن على تأسيسها رقمًا أساسيًا في المعادلة الثقافية، ووجهة رئيسة للباحثين، ودرعًا منيعًا لذاكرة المملكة وهويتها.
وفي الختام، يمكن القول إن الدارة عبر مسيرتها أثبتت أن فهم الماضي ليس غاية في حد ذاته، بل هو البوصلة التي توجه الحاضر وتلهم المستقبل. وبفضل جهودها المتكاملة، تواصل الدارة أداء دورها كحارسة أمينة للذاكرة الوطنية وسفيرة عالمية للتراث السعودي، ومنارة تشع بقيم الأصالة والانتماء والإبداع. وتؤكد الدارة من خلال إستراتيجياتها ومشاريعها المتنوعة أن تاريخ الأوطان هو أغلى ما يمكن أن تملكه الشعوب من ثروات حضارية وثقافية، وأن صونه وتوثيقه مسؤولية مشتركة تتطلب تضافر الجهود واستدامة العمل الجاد. وفي ظل التحديات المعاصرة، تبرز الدارة نموذجًا رائدًا في الجمع بين المحافظة على التراث والانفتاح على المستقبل. فهي تتعامل مع الوثائق والمخطوطات بذات الحرص الذي تمنحه للمبادرات المجتمعية وبرامج الشباب، وتوازن بين الأصالة والتجديد، لتقدم للأجيال القادمة رصيدًا معرفيًا وثقافيًا يعزِّز من قدرتهم على مواجهة التغيّرات والتفاعل مع العالم بوعي واعتزاز. وبينما تواصل الدارة نسج خيوط الذاكرة الوطنية، فإنها ترسم في الوقت ذاته معالم الغد، وتؤكد أن الحفاظ على التاريخ ليس مجرد واجب مؤسسي، بل هو رسالة وطنية وإنسانية عميقة تتجدد مع كل جيل وتزدهر مع كل إنجاز. وهكذا تظل دارة الملك عبدالعزيز، بعد أكثر من خمسين عامًا على تأسيسها، فكرة حيَّة متجددة، تعكس روح المملكة وتطلعاتها، وتحمل على عاتقها مسؤولية حفظ التراث وتوثيق الإنجازات ونقل القيم للأجيال، لتبقى المملكة في قلب العالم، بتاريخها العريق ورؤيتها الطموحة، منارة إشعاع حضاري وثقافي تتوارثها الأجيال وتفخر بها الإنسانية جمعاء.