د. علي القحيص
هناك من يقول لك لم تتغير الدنيا، ولم يتغير الزمن كما تظنون، وحكاية «الزمن الجميل» واهية وأكذوبة ليس لها أساس من الصحة ولم يثبتها أحد، يردها المحبطون!
صحيح الدنيا لم تتغير والوقت واليوم والشهر وفصول السنة، وما زالت الشمس تشرق صباحا وتغيب مساءً!
لكن الناس هم الذين تغيروا، وتغيرت بوصلتهم ومفاهيمهم ومبادئهم وثقافتهم بل حتى إنسانيتهم، بسبب أمور كثيرة متعددة ليس بصدد رصدها الآن، لأنها تحتاج إلى دراسات وبحوث لتحليلها!
ولا يغيب عن ذاكرتنا الجمعية تفاصيل فصل الصيف في سنوات مضت ونحن صغار، يقول لنا المعلمون إن عليهم إنهاء المناهج المدرسية مبكرا، ليتمكنوا من السفر إلى بلدانهم لقضاء إجازة الصيف هناك.
ونسمع أيضا بعض الطلاب من العائلات الارستقراطية أيضا أنهم على عجل من أمرهم، ليسافروا مع أهلهم إلى (لندن وجنيف وباريس)، ونحن لا نعرفها حيث كنا صغارا وطلابا في مراحل دراسية مختلفة، وكان حلمنا أن تعطل المدارس لنأخذ قسطا أكبر من النوم دون ضوابط، ونقضي أيام العطلة في رحلات إلى البر في حظائر الإبل والأغنام في الصحراء، نتعلم كيف نعد الطعام والقهوة ونورد الإبل إلى أحواض المياه ونؤدي مهام حلب الإبل!
كنا نستمع إلى (كاسيت) نضعه في مسجل «سانيو أبو القير» صنع عام 1973!
بطارياته وسط، وغالبا ما تنفذ تلك البطاريات من الدكاكين لكثرة الإقبال عليها.
ويتبقى عند صاحب البقالة البطاريات الكبيرة، لأنها أكثر استهلاكا ومبيعا، تستخدم لإنارة المصابيح الليلية وفي مصابيح الإضاءة اليدوية الليلية التي يستخدمها عادة كبار السن. ويستخدمونها أيضا لسماع الراديو، ومتابعة نشرة الأخبار «هنا لندن»، بصوت ماجد سرحان، رحمه الله (1940 - 2001).
وبذلك نأتي بالبطاريات الكبيرة، وغالبا ما نسرقها من الوالد رحمه الله، حيث اعتاد وضعها في صندوق دلال القهوة، ونلفها بكرتون أنبوبي، ونوصلها بأسلاك للمسجل بين السالب والموجب، لكي نستمع لأغاني «حجاب ابن نحيت» و»سلامة العبدالله» و»خلف هذال» عندما كان يغني قبل أن يتحول إلى شاعر فقط، وكذلك «مفرح الضمني» قبل أن يعتزل الغناء، ويوسف محمد، قبل أن يتحول إلى رجل دين ملتحٍ). والصريخ ونسمع المطرب بدر الغريب كلمات سليمان الهويدي (1927 - 2000)، وهو يقول (يا قرب لندن وباريس.. حذفة عصا للي رصيده ملايين)!
هنا أدركنا أن لندن وباريس، مقصد للمترفين، يذهب لها الخليجيون في وقت الصيف لقضاء الإجازة الصيفية وهروبهم من الحر إلى هناك، لكننا نحن متمتعون برحلاتنا البرية الخاصة عبر وانيت داتسون (وارد عراوي)، أما من يملك (الجمس الأحمر أبو جميحيات) ويقصد وارد الجميح، له أضويه برتقالية صفيرة فوق غمارته، فهذا محظوظ جدا، ونعتبره من الأثرياء، وحتى إن الفتيات البدويات كن يتغزلن ويغنين عليه، «راعي الوانيت.. مرني لا أموت.. أبيك لو أنت (نصراني)»!!
وكذلك كتب عنه الشاعر بندر بن سرور الكثير.
ونحن همنا الوحيد أن نكبر ونستطيع أن نشتري (وانيت جيمس من الجميح)، وما زلت لم استطيع شراءه إلى الآن!
المهم كان الخليجيون يسافرون صيفا إلى الخارج، السعوديون يرغبون مصيف باريس، والكويتيون يحبون لندن أما الإماراتيون يرغبون المصيف في ميونخ.
وهناك كتبت أغلب القصائد وأعذبها غزلا، كما يقول خالد المزين في إحدى إطلالاته الجميلة.
ويذكر قصائد بدر بن عبدالمحسن رحمه الله وقصائد نايف صقر وفهد عافت.
ويذكر أيضا قصائد حمد العزب رحمه الله... ومن قصائده (ياما حلاهن وانصفطوهن على (.......) صفرا الكراش مسكرات العيالي!
ونسمع أيضا لكلمات سليمان الهويدي بصوت بدر الغريب وهو يقول: (الله من قلب غدى في إسطنبول... يا بدر نضيعته نهار الوداعي).
ولكننا نعجب أكثر حين يقول الهويدي (نشدت عنه كاتبين الجوازات... قسم الخروج اللي يجيه المغادر...قالوا تعدى صار له ست ساعات...حتى جوازه توه اليوم صادر...
على الجموس اللي تجيب المسافات....اللي تسابق طير بالجو طاير).. هنا نفرح ونتفاءل، أن هذا الحبيب قريب (جابه الله) الهويدي يقصد حبيبه أتي من الكويت للسعودية، ننبسط جدا، أن في الصيف يأتون بنات جميلات إلى السعودية، ونرى ونتأمل (الجموس) السيارات المارة عبر الطريق الطويل في الصيف عبر الصحراء، وكأن عليه سراب ماء يرف في فترة الظهر من حرارة الشمس على الإسفلت!
ولا نعلم أن بعض زملائنا التلاميذ وأصدقاء أولياء أمورنا، يقضون فترة الصيف الحار في (جنيف ولندن وباريس)، إلا عندما كبرنا ونضجنا، بعد أن خرب كل شيء وفقدت لذة ومتعة السفر إلى هناك، وأصبح السفر قلق وخطر ومكلف جدا، بسبب الأحداث السياسية المضطربة، والحروب الطاحنة التي أشعلت المدن الجميلة وقتلت الأبرياء وأزهقت الأرواح البريئة، وهجرت الملايين من بلدانهم، ليس بقصد السفر بالصيف، ولكن بسبب هذه الكوارث والمحن والمآسي والحروب المدمرة، التي يحصد فائدتها تجار الحروب الجشعين، الذين يتغذون على رائحة شواء لحم البشر، شتاء وصيفا بل في كل الموسم والفصول!!