د.إسحاق بن عبدالله السعدي
دعوة للتأمل في فضائل الجمعة وآثارها على الفرد والمجتمع وبخاصة حضور خطبتها والتقيد بآدابها والتأمل في مقاصدها وما يوجبه ذلك من الحمد والشكر لله على نعمة الإسلام؛ التي هي بحق أكبر النعم على الفرد والمجتمع.
الحمد والشكر لله لما فيها من إشاعة الطمأنينة والراحة والسكينة؛ الشكر لله على ذلك الزاد الروحي الذي تورثه مراسيم الجمعة وهديُّها وآدابها وما تورثه كذلك من ابتهاج للنفس؛ يكفي أن يكون المؤمن ذا انتماء لمعتقدٍ راسخ فذٍّ إيجابي جوهره شاهدة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله تنبثق عنه شريعة أخلاقية غراء تحثه فيما تحثه عليه على النظافة الشاملة والتطهر العميق والتطيب وحسن المظهر وحسن التعامل والدخول في علاقات متوازنة راقية بدءاً بعلاقته بربه وبالملأ الأعلى ومروراً بخاصته وأهله وقرابته وجيرانه وانتهاءً بمحيطه العام؛ ولئن كان هذا هو ديدن المؤمن في كل آن وحين. إلا أن ذلك يتأكد في يوم الجمعة عيد المؤمنين الأسبوعي الذي يأتي كما يقال ميزان الأسبوع يتفقد فيه المؤمن نفسه ويعتني بنظافته العامة بمفهوم آخر للنظافة يجمع بين الطهارة والوضاءة والجمال والجلال والنظافة الحسية والنظافة المعنوية؛ فعلاً هذا نمط مميز فريد وسلوك قويم وأسلوب إنساني حضاري يشيع السلام مع الذات والتصالح معها والتسامح والتحاور والتكافل والتكامل والتفاعل الإيجابي مع الآخرين إنه النبع الصافي والمنهل العذب الذي يرده المسلمون كل أسبوع، يجدد هممهم على فعل الخير والبر والمعروف ويرسخ الأمن والإيمان والطمأنينة في نفوسهم، يجتمع المسلمون كل أسبوع اجتماعاً يشبه اجتماعهم كل يوم في الفروض المكتوبة لكن في دائرة أكبر وبصورة أجمل كي يذكروا الله كثيراً ويسبحوه بكرةً وأصيلا ويكثروا من الصلاة والتسليم على نبيهم المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم ويكبروا الله ويحمدوه ويستغفروه فيزدادوا قوةً إلى قوتهم ويزدادوا تواصلاً وتعارفاً وتراحماً وتكاملاً وتكافلاً مما يعينهم على شق الطريق في حياتهم بهذه القيم الإيجابية والتعبئة الروحية المتوثبة مهما كانت التحديات والصعوبات والهموم والمشكلات ولكي يتحقق لهم النجاح وقوة الإرادة والثقة بالنفس وتحقيق الوجود بفاعلية خيرة وإنجاز وابداع {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} سورة المؤمنون (61).
ستظل الجمعة للمؤمنين عيداً يلهمهم التقى والعفاف والرضا ويربطهم بتاريخهم الماجد وعزهم الكامن في إسلامهم الذي جاء ليتمم مكارم الأخلاق والذي جاء رحمة للعالمين. إن روحانيات هذا اليوم المبارك لتؤكد على هذه الأبعاد كلها بما تسكب من الطمأنينة في كيان الفرد أولاً ثم بما تنشر في أوساط المجتمع من المعاني الإنسانية المتمثلة في السلوك الحضاري العام ابتداءً بالابتسامات التي ترتسم على الوجوه وتعكس الضمائر الممتلئة بالنقاء والصفاء تشع في دفتر الأسبوع أحرفاً من نور تضيء زوايا النفس تفاؤلاً وأملاً وربيعاً يعطر المسافات بشذا النبل وطيوب الوفاء ومن الأسبوع إلى الأسبوع يتجدد العهد فترد الجماعة نبع الجمعة العذب النمير المتدفق بالرحمة والبر والإحسان يلتقون في مشهد عظيم ووضوح كالشمس {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} سورة النور (36)، يعبّون علماً نافعاً وذكرى متكررة بأن اتقوا الله أعبدوا الله أخلصوا أعمالكم لله أصلحوا علاقتكم بالله وبخلق الله وأصلحوا ذات بينكم على هدي رسول الله تمسكوا بكتاب الله اقرأوا سورة الكهف وما تيسر من السور والآيات؛ انظروا في صلواتكم وصلاتكم وسائر الفرائض والأركان جددوا إيمانكم تواصوا بالحق تواصوا بالصبر تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان؛ إنه تواصل مستمر ومتجدد وحديث روح يقوي الوشائج ويستلهم الذكريات يضمخها بخالص الدعاء وصافي الود وعميق الحب والإخاء الدعاء بالمحامد والمكارم والخيرات.
للمرء أن يتصور مردود هذا الدرس الأسبوعي بما أحاطه الشارع الحكيم من آداب وبما أودع فيه من القيم وما سن فيه من السنن كيف يربي المسلمين تربيةً صالحة ويتعهدهم بأسلوب عملي يتوجه للفرد في المقام الأول ليصلح من شأنه حتى يستقيم على أمر الله باعتباره اللبنة الأولى وأساس المجتمع وبصلاح الأفراد يصلح المجتمع.
درس الأسبوع هذا بما فيه من نظم وقيم وعقائد وعبادات وشعائر لا يستهدف الفرد أو المجتمع بتنظيرات وحشد من المعلومات الدينية والتاريخية دون ربط بواقع أو مران على التكليف وإنما يربط بين النظرية والتكليف والأداء بتطبيقات عملية تتوخى الدقة والجودة العالية كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ) صحيح الجامع، وقوله: (إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا) رواه مسلم.
كان معلم الأمة الأول في ذلك المصطفى الكريم فقد كان يحرص أشد الحرص على جودة الأداء في الوضوء فيأمر بإسباغه وأداء الصلاة كاملةً غير منقوصة في الوقوف والركوع والسجود وما زال حديث الرجل الذي أمره بإعادة الصلاة المرة تلو الأخرى حتى أجاد الأداء من أبلغ الأدلة على هذا البعد التربوي الهادف ويبلغ الاهتمام بالتطبيق في قوله صلى الله عليه وسلم: (صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) رواه البخاري، وقوله: (خذوا عنِّي مناسِكَكم) رواه أحمد، ومسلم بلفظ قريب منه، كذلك كان شأنه كله في سائر العبادات وفي سائر أمور الدين والدنيا يربط بين القول والعمل؛ الكلمة الطيبة الصادقة الناصحة يتبعها التطبيق المخلص المتقن لبلوغ التمام والكمال ما وجد المؤمن لذلك سبيلا.
إن صلاة الجمعة وخطبتها وقد أصبحت من شعائر الإسلام من حقها التعظيم {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} سورة الحج (32)، وقد وعى المسلمون هذا البعد الجليل فتمثلوه سلوكاً فائق الجودة وصوراً ثقافية متنوعة في حياتهم الفردية والاجتماعية.