ناصر زيدان التميمي
في لحظة من السكون العميق وبين جدران غار فيه رجل يبحث عن الحق نزلت الكلمة الأولى من السماء اقرأ لم تكن الكلمة مصادفة، ولم تكن مجرد صوت عابر، بل كانت نداء للروح دعوة للعقل إشعالاً لفتيل أمة ستُبنى على العلم والمعرفة كانت اقرأ بداية طريق وليست مجرد بداية آية.
تمر القرون وتتعاقب الأجيال ونقف اليوم أمام مشهد مؤلم أمة اقرأ لم تعد تقرأ أمة وُلدت من رحم المعرفة هجرت الكتاب واستبدلت السؤال بالحفظ واستبدلت التأمل بالتصفح السريع كأن الكتاب أصبح عبئًا وكأن الكلمة فقدت قيمتها وكأننا اكتفينا من المجد حين عرفنا أننا أمة اقرأ ونسينا أن نعيش فعلاً بمقتضى هذه الكلمة.
في بيوتنا أصبحت رفوف الكتب للزينة في المدارس تحولت القراءة إلى واجب ثقيل وفي المجالس يغلب الحديث عن التسلية والشائعات لا عن الكتب والأفكار نُهدي أطفالنا أجهزة وننسى أن نهديهم قصة نملأ أوقات فراغنا بكل شيء إلا بما ينفع عقولنا أصبحت القراءة فعلاً نادراً وغريباً وربما مستغرباً حتى من أقرب الناس إلينا.
لماذا لا نقرأ هل لأننا مشغولون أم لأننا لم نتذوّق طعم القراءة الحقيقي منذ الصغر في الحقيقة نحن لا نعيش أزمة وقت، بل أزمة وعي نحن لا نفتقد الكتب، بل نفتقد الدافع نحن لا نكره المعرفة لكننا لم نُربَّ على حبها لم يرَ الطفل في والده كتابًا مفتوحًا ولم يرَ الطالب في معلمه شغفًا بالمعرفة لم نرَ في محيطنا من يقول لنا اقرأ لأنها حياة لا واجب.
القراءة ليست هواية كما يُقال أحيانًا إنها طريق الإنسان نحو أن يكون إنسانًا أن يفهم نفسه ويفهم غيره أن يتجاوز السطح ويرى الأعماق أن يبني رأيًا لا يردده أن يعيش الحياة بتفكير لا بتقليد إنها غذاء العقل كما أن الطعام غذاء الجسد الفرق أن الجسد يُنهك بسرعة عند الجوع أما العقل فيموت ببطء وصمت.
وحين تموت العقول لا تنهار الحضارات فجأة لكنها تبدأ بالتآكل شيئًا فشيئًا تفقد وضوحها تفقد صوتها وتبقى واقفة على أقدامٍ من ورق لا تصمد أمام الريح.
ومع ذلك لم يفت الأوان بعد ما دامت الكلمة محفوظة في صدورنا وفي كتابنا العظيم ما دامت اقرأ باقية نحتاج فقط أن نعيدها من الشعار إلى الفعل أن نبدأ بصفحة قبل النوم أن نقرأ مع أطفالنا بصوتٍ حي أن نجعل الكتاب جزءًا من البيت لا ضيفًا عابرًا أن نحترم الكلمة وأن نمنحها وقتًا من يومنا.
القراءة لا تصنع مثقفًا فقط بل تصنع قلبًا أوسع عقلاً أنقى ومجتمعًا أهدأ وأرقى لا تُغيّرنا الكتب مرة واحدة لكنها تُغيّر فينا شيئًا في كل مرة شيئًا صغيرًا يترك أثرًا عميقًا يُعيد ترتيب أفكارنا يصقل أحلامنا ويوسّع رؤيتنا للحياة.
إن كنا فعلاً أبناء اقرأ فلنعد إليها ليس لأننا نخجل من المفارقة، بل لأننا نستحق أن نكون أفضل مما نحن عليه اليوم نستحق أن نعرف ونفهم ونفكر أن نقرأ لأن في القراءة حياة أخرى نحتاجها لنعيش بوعي لا بمجرد البقاء؟