د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
تبرز السعودية كمركز استقطاب عالمي قابل للنمو بعدما كانت تتجه الاستثمارات والشركات إلى آسيا، ومن قبل نحو الغرب، فيما السعودية تقع وسط هذا العالم والرابط بينه، وكانت تبحث الولايات المتحدة عن منطقة نمو جديدة تقلص احتكار الصين في الاستحواذ على النمو الاقتصادي العالمي، وحاولت تحفيز النمو الاقتصادي في الهند ودول في آسيا مثل بنغلاديش وفيتنام وتايلند، لكن برزت السعودية كمركز لوجستي يمتلك مقومات النمو الاقتصادي، خصوصا بعدما أصبحت السعودية قلب الحزام والطريق ثم استحدث الممر الهندي الأوروبي الذي قلبه السعودية، جعل السعودية تتجه نحو تحفيز مقوماتها لتصبح جاهزة كقطب اقتصادي عالمي جديد كما في رؤية الأمير محمد بن سلمان لتحويل المنطقة إلى أوروبا جديدة.
يدعم تحول السعودية كمركز عالمي لاستقطاب الشركات الناشئة رؤية المملكة 2030، وبالفعل تقدمت السعودية 60 مركزا خلال الأعوام الثلاثة الماضية ضمن تصنيف أفضل 100 بيئة أعمال ناشئة صاعدة عالميا، واستند التقرير إلى تحليلات لأكثر من 5 ملايين شركة ناشئة ضمن أكثر من 350 منظومة عالمية، مستعرضا أبرز الاتجاهات الاستثمارية والسياسات المحفزة لنجاح الابتكار وريادة الأعمال على المستوى الدولي، لتحتل السعودية المرتبة الـ23 في تقرير منظومة الشركات الناشئة العالمية 2025 الصادر عن منظمة Startup Genome مع ريادة الأعمال العالمية، لا سيما في مؤشر رأس المال الجريء، وتطور البنية التحتية للمنظومة الريادية، إلى جانب ارتفاع مستويات الابتكار والاستثمار في التقنيات الناشئة، وسلط التقرير الضوء على القطاعات الواعدة التي أسهمت في النتائج، وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي، والتقنيات المالية، والأمن السيبراني، والمدن الذكية، والبنية التحتية، إضافة إلى الصحة الرقمية، التي تمثل ركائز أساسية في خطط التحول الاقتصادي للسعودية.
تدرك السعودية أنها ضمن عالم يتنافس، فمثلا الهند تشهد تحولا كبيرا في صناعة الفضاء العالمية، مدفوعة بازدهار غير مسبوق في قطاعاها الخاص، الذي بات يشكل حجر الأساس في هذا التحول وهذا ما تسعى له السعودية، وبحسب بيانات شركة تراكسن الهندية بلغ عدد الشركات الهندية الخاصة العاملة في مجال الفضاء حتى مايو 2025 نحو 172شركة، لتحتل في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة التي تقود العالم ب825 شركة، وهو ما تسعى إليه السعودية لفتح الباب أمام رواد أعمال ومهندسين كثير منهم من خريجي منظمة أبحاث الفضاء في أنحاء العالم، لإطلاق شركات ناشئة تبتكر في مجالات إطلاق الأقمار الصناعية والتقنيات الملاحية والمراقبة.
فمجموعة Stc تحتفي بتخريج 44 شركة ناشئة محلية ودولية، وتركز السعودية بشكل خاص على دعم الشركات الناشئة باعتبارها ركيزة أساسية لخلق فرص عمل جديدة وتحفيز النمو الاقتصادي المستدام، وتهدف إلى تسريع نمو الشركات الناشئة في مختلف القطاعات مثل التكنولوجيا، والطاقة المتجددة، والصحة، والتعلم، وغيرها، ما جعلها تتجه نحو مشاركة أكثر من ألف شركة ناشئة محلية وعالمية ضمن فعاليات بيبان 24 الذي أقيم تحت شعار وجهة عالمية للفرص، في الفترة من 5-9 نوفمبر 2024 لإبراز الشركات الريادية المتميزة محليا ودوليا وتسهيل ربطها بمنظومة ريادة الأعمال في السعودية، إضافة إلى توفير بيئة متكاملة للربط مع المستثمرين وتعزيز فرص النمو والتوسع.
في زمن لم يكن فيه سوى النفط منبع القوة الاقتصادية للسعودية، في غضون أعوام قليلة منذ انطلاق رؤية المملكة 2030 تتحول السعودية إلى أرض خصبة تنبت فيها الشركات الناشئة التقنية بشكل خاص وفقا لتقرير حديث صادر عن Startup Blink العالمية قفزت السعودية إلى المرتبة الأولى عالميا في نمو منظومة الشركات التقنية الناشئة، متجاوزة دولا سبقتها بعقود في مسارات الابتكار، يمكن أن تتحول السعودية مستقبلا إلى محركا عالميا في مجال ريادة الأعمال التقنية، فلم يكن هذا الإنجاز مصادفة، بل نتيجة استراتيجية وطنية مدروسة حولت البيئة المحلية إلى منطقة جاذبة للعقول ورؤوس الأموال، فبلغت نسبة النمو في الشركات الناشئة التقنية في السعودية في 2024 نحو 82.39 % باعتبار أن السعودية ترى التقنية وريادة الأعمال في قلب التحول الوطني، وأصبحت السعودية وادي السليكون الخليجي تحتضن مسرعات أعمال ومراكز ابتكار مثل مركز الابتكار الرقمي، ومسرعة فنتك السعودية.
ما يحدث في السعودية هو ثورة في تمويل الابتكار، لم تعد الشركات الناشئة تبحث عن المال خارج الحدود، بل أصبح التمويل المحلي والخليجي يغمر السوق، مثل إطلاق صندوق Jada لدعم الاستثمارات الجريئة بمليارات الدولارات، ودخلت مؤسسات عالمية مثل Global 500 و Soft Bank السوق السعودية لتمويل الشركات الناشئة، هذا التمويل الضخم لا يأتي فقط من الدولة، بل من القطاع الخاص، وصناديق استثمار خليجية، ومستثمرين بعدما أصبحوا يرون السعودية قطبا اقتصاديا قادما.
بسبب أن الشركات الناشئة التقنية السعودية لا تقتصر على التطبيقات والخدمات، بل تدخل مجالات أعمق في الذكاء الاصطناعي مثل Mozn و SDAIA تقود ثورة البيانات والتحليلات، وتم تسجيل بلوك تشين سعودية بالكامل لخدمات التوثيق والعقود، واستخدام الروبوتات على نطاق واسع في القطاعات الصحية والخدمية ضمن مشروعات نيوم بقيادة شباب سعوديين بأفكار عالمية، مع التركيز على بيئة ناشئة بمواهب محلية وهناك شراكات جامعية مع MIT و Stanford ومراكز أبحاث عالمية، ودعم برامج مثل STEM for Saudi لتخريج آلاف المبرمجين سنويا.
تود السعودية أن تكون ضمن أفضل 10 دول عالميا في ريادة الأعمال التقنية بحلول 2030، وتسجيل أكثر من 20 ألف شركة ناشئة في مختلف المجالات بحلول 2027، وما حققته السعودية في أقل من عقد في قطاع الشركات الناشئة التقنية يعد بمثابة معجزة اقتصادية وتكنولوجية، باعتبار السعودية اليوم مركزا نابضا بالفرص للشركات الناشئة التقنية، حيث تتيح التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية فرصا عظيمة للابتكار والنمو.
** **
- أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والسياسية بجامعة أم القرى سابقا