أ.د.عثمان بن صالح العامر
كلنا يعلم أن الله خلق الجن من مارج من نار، وهم مثلنا نحن البشر، كلفهم الله عزَّ وجلَّ بعبادته وحده، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، والرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث لنا ولهم على حد سواء، وسيحاسبون كما سنحاسب نحن يوم القيامة، حضروا يستمعون القرآن في مطلع نبوته عليه الصلاة والسلام، ووصفوه بأنه {قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}، وكانت النتيجة (الإيمان به، وعدم الإشراك بالله عزَّ وجلَّ) كما هي الآيات الأولى من سورة (الجن).
كنت أقرأ هذه الآيات وما بعدها في هذه السورة التي تبحر بنا في الحديث عن هذا المخلوق العجيب الذي خصَّه الرب سبحانه وتعالى بخصائص عدة لعل من أبرزها: التشكّل والتحوّل والاختفاء، والحضور الغيبي، والسرعة العجيبة، والقوة الخارقة، والوجود الدائم معنا، إذ مع كل واحد منا قرين - كما دلَّ على ذلك حديث رسول الله صلى الله وسلم الذي رواه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه مسلم -رحمه الله- في صحيحه.
كنت وأنا أتفكّر وأتأمّل في هذه الآيات من السورة التي اسمها (الجن)، أتساءل في نفسي إزاء هذه الخصائص والسمات التي خلق الله عزَّ وجلَّ الجن بها: تُرى هل في الجن من ينصرون الحق، ويقمعون الشر، هل منهم دعاة للخير على أبواب الجنة، خاصة أنني أعرف سلفاً أنه لم يكن من جنسهم رسل ولا أنبياء منذ بدأ الخليقة حتى ختمت الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ وفي أثناء قراءتي لأحد الأبحاث وجدت طرفاً من جواب على هذا السؤال العالق في الذهن حتى هذه الساعة، إذ مر بي أن مصنفات تراجم الصحابة تذكر أن (خُنافر بن التوء) كان كاهناً من جِمْيَر، ثم أسلم على يد معاذ بن جبل رضي الله عنه، وبيَّن سبب إسلامه (أبو علي القالي) في (أماليه)، مشيراً إلى (أن هذا الكاهنَ أُوتي بَسْطة في الجسم، وسَعة في المال، وكان عاتياً، فلما وَفَدَت الوفود إلى اليمن عن النبي عليه الصلاة والسلام جد وظهر الإسلام، أغار على إبل لقبيلة مراد فأخذها جميعاً، وكان له في الجاهلية رَبِيٌّ -وهو التابع من الجن يخبره بالتنبؤات ويجد حِسه، ويرى خياله - وقد فَقَدَه بعد البعثة النبوية. ثم جاءه الرَبِيِّ بعد زمن طويل، وأخبره بقوله: (خِطابٌ كُبَّار جاء من عند الملك الجبار، وهو فُرقانٌ بين الكفر والإيمان، أتى به رسول من مُضَرَ ابتُعِث فظهر، فجاء بقول قد بَهَر، وأوضح نهجاً قد دَثر، فيه مواعظ لمن اعتبر، وهو أحمدُ خير البشر).
ثم قال له رَبِّيّه: (فآمنتُ يا خُنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانِبْ كل كافر، وشايع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق). فقال خُنافر: (فاحتملتُ بأهلي، ورددت الإبل على أهلها، ثم أقبلتُ إلى معاذ بن جبل بصنعاء، فبايعتُه على الإسلام، وعَلَمَني سوراً من القرآن).
ويعود السؤال من جديد: هل من الجن اليوم من يرشد للخير ويدل عليه، أم أن ما نسمعه ونقرأه عنهم ينطبق عليهم جميعاً؟ هل الأصل فيهم الشر، لأنهم ذرية إبليس؟ وهل الغالبية منهم شياطين؟ مع العلم أن منا نحن الإنس شياطين، ذكر ذلك الله عزَّ وجلَّ فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}، هؤلاء الجن وغيرهم من مخلوقات الله أمم أمثالنا تسبح الله وتذكره {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}، دمتم بخير، وإلى لقاء، والسلام.