د. سطام بن عبدالله آل سعد
مشهد واقعي
في ظلمة الليل، وتحديداً عند الساعة الواحدة والنصف، وفي أحد منازل هذا الوطن العظيم، يستيقظ طفل صغير في المرحلة الابتدائية أو المتوسطة من نومه خلال الإجازة الصيفية. لا يستيقظ للقراءة، ولا للمذاكرة، بل يمد يده الصغيرة إلى جواله، يفتحه، ويدخل إلى أحد تطبيقات توصيل الطعام.
إصبعه النحيل يتنقل بين الوجبات، يختار ويقارن ويقرر، ثم يضغط على «طلب»، وينتظر بكل براءة وجبةً تُشبع شغفه قبل أن يُكمل ليلته في عالم الألعاب. قد يبدو المشهد بسيطاً، وربما عادياً في زمن التقدم التكنولوجي الهائل، لكنه في جوهره يحمل دلالات اجتماعية واقتصادية عميقة، ويعكس تحوّلاً جذرياً في سلوك الأفراد، وفي شكل الاقتصاد المصغّر الذي يُدار من غرفة صغيرة في بيتٍ صامت.
ذلك الإصبع الصغير لا يُشغل شاشةً فقط، بل يٌفعل عجلة اقتصاد متكامل، من سيرفر التطبيق، إلى فريق الدعم الفني، إلى المطورين والمبرمجين، إلى موظف الكاشير، ثم إلى العامل الذي يُحضّر الطعام في المطبخ، فمندوب التوصيل الذي يشق طريقه عبر شوارع المدينة، حتى تصل الوجبة إلى يد العاملة المنزلية التي تستلمها وتقدّمها للطفل في غرفته.
وهنا تتجلى مفارقة عصرنا؛ طفل صغير يُطلق الطلب، ليُشعل فتيل سلسلة من التفاعلات الاقتصادية المتلاحقة، كما لو أنه يُحرّك أولى قطع الدومينو فتتساقط تباعًا، حتى يعمل مجتمع بأكمله بتناغم ليستجيب.
إنّ اقتصاد الخدمات «عند الطلب» (On-demand Economy) لا ينام، والطلب الفردي - مهما كان بسيطاً - أصبح بمقدوره أن يُشغّل سلسلة معقدة من التفاعلات البشرية والرقمية. فالآثار الاقتصادية واضحة، كخلق فرص عمل جديدة، وتحفيز قطاع المطاعم والتقنية، ونمو سوق التطبيقات، وتوسّع في خدمات الدعم اللوجستي، لكن في المقابل، تحتاج الآثار الاجتماعية إلى وقفة تأمل. فالأطفال يتعوّدون على الإشباع الفوري، دون عناء أو تفاعل بشري حقيقي، لأن الجهد أصبح رقمياً والعلاقات باتت تُدار من خلف الشاشات.
وفي هذا المشهد، نرى كيف تداخلت الطفولة مع الاستهلاك، والتقنية مع الحياة اليومية، حتى أصبح الاقتصاد يُبنى -جزئيًا- على رغبات لحظية لطفل لم يُغادر سريره، ولم يخطُ خطوة خارج غرفته.
إنها لحظة تستحق التوقف، لا لنقد التقنية أو ذم السلوك، بل لإدراك حجم التحول، وإعادة التفكير في بناء وعي استهلاكي جديد. توجيه هذه القدرات الرقمية نحو التوازن بدلاً من الإسراف، وحفظ طفولة الجيل الجديد مع تعزيز إدراكه لقيمة ما يُحرّكه بإصبعه الصغير، هي مسؤوليات لا تحتمل التأجيل.
فالإصبع الصغير، حين يتحرك دون وعي، يخلق مجتمعاً اتكالياً، لكنه حين يُوجّه، يصبح أساساً لاقتصاد مستدام.
** **
- مستشار التنمية المستدامة