د.عبدالرحيم محمود جاموس
في الوقت الذي توصلت فيه إسرائيل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع إيران خلال ساعات، بعد تبادل محدود للضربات، تتواصل الحرب المفتوحة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، دون أن تلوح في الأفق أي بادرة حقيقية لوقف القصف أو إنقاذ المدنيين.
هذه المفارقة الفاضحة، التي أشار إليها بيان رئاسة المجلس الوطني الفلسطيني أمس، تفضح المعايير المزدوجة التي تحكم سياسات القوة في المنطقة، وتؤكد أن ما يحدث في غزة ليس مجرد حرب، بل مشروع تطهير عرقي مغطّى بدوافع أمنية مزعومة.
أكثر من عشرين شهرًا من العدوان الإسرائيلي الشرس حوّلت القطاع إلى أرضٍ منكوبة بكل المقاييس.
أُبيد أكثر من 5 % من سكان غزة بين قتيل وجريح ومفقود، وهُجّر أكثر من 85 % من السكان قسريًا، فيما انهارت المنظومات الصحية والخدمية، ووصلت الأوضاع المعيشية إلى مستويات ما قبل الحياة. عشرات الآلاف من الأطفال يعانون من سوء تغذية حاد، والمياه النظيفة نادرة، والمساعدات - حين تُتاح - تصبح مصائد موت، كما حدث في مواقع توزيع الغذاء التي شهدت عمليات إطلاق نار مباشرة ضد المدنيين.
ليست هذه وقائع من تقرير حقوقي دولي، بل من مشاهد يومية حية تنقلها وسائل الإعلام ومنظمات الأمم المتحدة، التي باتت تصف الوضع في غزة بأنه أسوأ كارثة إنسانية يشهدها القرن.
وقد اعترفت العديد من الهيئات الحقوقية بأن سلوك الاحتلال الإسرائيلي في إدارة الحرب وتقييد دخول المساعدات جرائم حرب موثقة، ومخالفة صريحة للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف.
ورغم الزخم الدولي في الدعوات لوقف إطلاق النار، وآخرها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة، ما زالت إسرائيل ترفض الانصياع لهذه المطالب، ماضية في استراتيجيتها القائمة على استنزاف المجتمع الفلسطيني وكسر إرادته، في محاولة لفرض تسوية قسرية أو هندسة ديموغرافية جديدة.
لكن السؤال المركزي اليوم لم يعد فقط متى يتوقف إطلاق النار؟
بل ما الذي يمنع وقف المجازر الآن، وإطلاق مسار تبادل الأسرى، وفتح ممرات إنسانية دائمة لتغذية المحتاجين وإنقاذ الجرحى؟!
إن استمرار تجاهل معاناة سكان غزة لا يهدد فقط الفلسطينيين، بل يهدد استقرار الإقليم كله، فالإفراط في استخدام القوة، وتغذية الكراهية، والانزلاق إلى الفوضى الشاملة، لن ينتج إلا مزيدًا من الحروب، ويُفقد العالم ما تبقى من ثقة بمؤسسات القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
إن وقف إطلاق النار الشامل والعاجل، وإطلاق سراح الأسرى من الجانبين، وفتح ممرات إنسانية حقيقية وفعالة، لم يعد خيارًا سياسيًا فحسب، بل أصبح واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا ملحًّا.
غزة اليوم لا تحتاج إلى خطب وبيانات، بل إلى تحرك فوري وجماعي من المجتمع الدولي لإنقاذ أرواح المدنيين، ومنع مزيد من الانهيار، ووقف الانزلاق إلى هاوية لا قاع لها. إن صمت العالم، أو تردده، لن يُسجّل في صفحات الحياد، بل في صفحات العار.
غزة ليست ساحة اختبار لقوة الاحتلال، بل مرآة كاشفة لقيم العالم...
فإما أن ينتصر فيها الإنسان، أو تنهزم فيها الإنسانية.