د. أحمد محمد القزعل
في زمن كثرت فيه الأسماء وقلَّت فيه الأفعال، يبرز رجالٌ تُسطَّر أفعالهم بمداد من نور، ويضيئون الدرب للآخرين بكرمهم وإنسانيتهم، ومن هؤلاء الرجال رجل لن نذكر اسمه وقد تجاوز السبعين من عمره المبارك، غير أن الزمن لم يضعف عزيمته وهمّته لم تعرف التقاعد، ولا عرف جسده راحة المترفين، ولا السنين أثقلت روحه، وكل يوم تفتح أبواب مكتبه بعد بزوغ الشمس ولا تغلق إلا بعد أن يلبي حاجات الزائرين وهم بالمئات، دون تمييز أو تأخير ودون أن يُشعر أحداً بمنة أو فضل، لم يتوقف هذا الرجل عن قضاء حوائج الناس، بل ازداد نشاطاً وتفانياً، كأنما يجد في خدمة الناس لذّة وراحة، قلّ أن تجدها في موائد الدنيا، يأتيه الناس من كل مكان، يطلبون مالاً أو طعاماً أو مواد أساسية لحياة كريمة، فيجدون الباب مفتوحاً، والقلب أوسع والبسمة أسبق.
هذا الرجل يُعطي بيمينه حتى لا تكاد ترى يساره، لا يعرف الكاميرات، ولا يرحّب بالمقابلات، ولا يسمح بأن تُنقل صور عطائه، وكأنما هو يعيش حديث النبي -صلّى الله عليه وسلّم-: «سبعةٌ يظلّهم الله في ظلّه...، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه»، ولا تجد له لقاءات إعلامية، ولا يعرف الناس له صورة منتشرة؛ لأن العطاء عنده عبادة، والسرّ فيه أجمل من العلن، ولو علم هذا الرجل أن هذا المقال كُتب فيه، لعاتبني بحُسن نية، ولكان عتابه ينبع من حيائه وإخلاصه، لكنه يعلم أن الله هو المقصود، وأن الكلمة هنا جاءت حتى يقتدي بها من يقرأ، ويتأسى بهذا السلوك النادر في زمن التنافس على المظاهر، وهذا المقال يُكتب حتى يسير الناس على نهج هذا الرجل ويحيون خُلق العطاء في نفوسهم.
يسكن هذا الرجل في المدينة المنورة، سيدة المدن وعاصمة النور وجوار الحبيب محمد -صلّى الله عليه وسلّم-، وكأنّ روح المدينة انعكست في سلوكه، فأصبح من أهلها خُلقاً قبل أن يكون سُكنى، يحمل همّ الناس كما يحمل العاشق همّ محبوبه، ويتفنن في إسعادهم كما يتفنن الشعراء في مدح محبوبهم، ولم يكتف بالعطاء المحلي، فهو يتعهد سنوياً بنفقات مئات الحجاج، وتخرج من المدينة المنورة قوافل العمرة إلى مكة المكرمة أسبوعياً على نفقته، لا تتوقف ولا تنقطع، لتيسر للناس زيارة بيت الله الحرام.
ومن أبواب البر التي يطرقها هذا الرجل بإصرار، دعمه لكل شاب يريد أن يعفّ نفسه بالزواج، يقف إلى جوارهم، يمدّهم بما يحتاجون من مال، ويساعدهم في تأسيس بيوتهم، ويدخل السرور على قلوبهم وقلوب ذويهم، يعرف أن إعفاف الشباب باب من أبواب حفظ المجتمع وبوابة واسعة للخير، فلا يدخر جهداً في ذلك، ولا يقف عطاؤه عند حدود المال، بل يمتد إلى الطعام والمواد الأساسية، حيث يُسخّر جهوده لتوفير ما تحتاجه الأسر من مأكل ومشرب واحتياجات يومية، فيغدو بيته مأوى للمحرومين، وملاذاً للمحتاجين.
حقيقة فإن محطات سيرة هذا الرجل -وفقه الله- تعد مصدر إلهام في مثل هذا الزمن، وتعتبر شخصيته مدرسة في السخاء والكرم، من عرفه أحبّه، ومن زاره ارتاح له، ومن طلب عونه وجده سابقاً إليه.