عبدالوهاب الفايز
«بعد هذه التجربة الثرية [في العمل الميداني]، من المناسب لتطوير الأعمال القانونيَّة في الجهات التشريعيَّة ومنها خبراء ومستشارو هيئة الخبراء بمجلس الوزراء، التعاون ولو لمدة محددة في إمارات المناطق، أو غيرها من الجهات التنفيذيَّة التي تباشر المهام التفصيليَّة مباشرة، ليكتشفوا عن كثب الأثر المترتب على صناعة التشريع، وليعرفوا مآل التشريع عند تطبيقه في جزيئات القضايا والحالات التي في أرض الواقع، فيتمكنوا من قياس الأثر التشريعي بشكل واضح وجلي عند صناعة الأنظمة وتعديلاتها؛ مما ينعكس إيجابًا على أدائهم في صياغة التشريعات والنظم». (ص147)
* * *
هذه واحدة من توصيات ومقترحات عديدة مهمة يقدّمها المستشار الدكتور محمد بن عبدالعزيز الجرباء في كتابه (قياس الأثر التشريعي وأهميته في الأنظمة والقرارات العامة)، مكتبة الرشد. هذا الكتاب يقدم لنا -في الصحافة- الفرصة لاستكشاف القضايا والتحديات الوطنية لإثراء الحوار والنقاش الوطني، بالذات في القضايا المرتبطة بالقوانين وتطبيقها وقياس أثرها.
وهنا يجب التأكيد أن هذا المقال ليس قراءة ومراجعة للكتاب، فهذا شأن المختصين، بل هو يستثمر الفرصة الذهبية لاستكشاف القضايا والتحديات في منظومة القضاء والتشريع، والتي يبدو أنها مازالت -بعكس توقعنا- تحتاج معالجة أمور أساسية في جانب التنفيذ وقياس أثر تطبيق الأنظمة. والمؤلف قدم عرضاً واسعاً وثرياً بالأمثلة والشواهد حول أهمية تكريس مبدأ قياس الأثر.
هذا العرض يذكرني بالتحفظات التي سمعتها من الشيخ صالح الحصين، رحمه الله. كان يتحفظ على كثرة إصدار الأنظمة دون التأكد من أمرين: الحاجة الماسة لها، وكفاءة الإعداد والتنفيذ.
والآن يضاف قياس الأثر. بدون هذه تصبح الأنظمة -كما يقول- مثل المضادات الحيوية حين تصرف بدون وعي كامل بمستوى البكتيريا، فقد تصرف بدرجات أقل أو أكثر، وفي رأيه هذا يقلل المناعة النظامية، أي تصبح الأنظمة بدون فائدة، مثل المضادات الحيوية!
الدكتور محمد، بصفته متخصصاً بالقانون الدستوري، تناول في كتابه أمورا أساسية وتحديات وطنية تعيدنا إلى منتصف التسعينيات الميلادية.
عندما أدخلنا صفحة متخصصة في (الأنظمة والمحاماة) في القسم الاقتصادي بجريدة الرياض، كان الهدف مناقشة القضايا الرئيسية التي تمس مهنة المحاماة والاستشارات القانونية في المملكة والتحديات التي تواجه منظومة البيئة التشريعية والقضائية بشكل عام. حينئذ كانت التحديات كبيرة، والمهنة لم تحظ بالمكانة الكبيرة التي تحتلها الآن بعد النقلات النوعية المتتابعة لرفع كفاءة منظومة القضاء والتشريع في المملكة، ولكن: كتاب الدكتور محمد يؤكد أننا مازلنا بحاجة ماسة لرفع كفاءة التشريع والتقاضي. فالتحديات مازالت قائمة!.
المؤلف هدفه الأساسي من تدوين تجربته في هذا الكتاب هو التأكيد على ضرورة الاعتناء بـ(كفاءة التشريع)، ليس من زاوية الاتفاق مع القواعد الفقهية أو الدستورية فقط، بل من زاوية الأثر الفعلي على المجتمع والاقتصاد والعدالة. فالتشريع الجيد، في نظر المؤلف، هو الذي ينبع من الحاجة الواقعية، وبعد التنفيذ يُختبر بمعايير أثره على المجتمع والدولة، لا بمجرد إعداد وجودة الصياغة القانونية.
ومن تجربته الطويلة، سواء في العمل الأكاديمي، أو في المؤسستين السيادتين، هيئة الخبراء في مجلس الوزراء ومجلس الشورى، يطرح الدكتور الجرباء موضوعات رئيسية ضرورية للاستمرار في تطوير منظومة القضاء؛ وهذه في تصوري ربما تحتاج وجود (مركز صناعة سياسات) متخصص يركز على هذه التحديات الرئيسية، مستثمرا وجود جيل من القانونيين السعوديين المتفرغين من رجال الدولة والخبراء، فهؤلاء ثروة نحتاجها لتثبيت الأسس والأدبيات لكفاءة التشريع الذي يؤدي لأمر مهم: (هيبة الدولة).
وأهمية (هيبة الأنظمة) وكفاءة تطبيقها وقف عندها مطولا. على سبيل المثال، يرى أن الهيبة تتحقق إذا تم تفعيل (اللجان الإدارية) داخل الأجهزة الحكومية حتى تقوم بتطبيق العقوبات المنصوص عليها بالنظام، وقدم مثالا حيا من نظام مكافحة الغش التجاري؛ لتفعيل هذا النظام، يرى أن التعديل التشريعي للوضع القائم يتطلب وجود اللجان الإدارية.
هذا، كما يقول، سوف يحقق «السرعة والفاعلية في تطبيق الغرامات، إذ إن الواقع الحالي الذي يقوم بمخالفة أحكام نظام مكافحة الغش التجاري، ثم يحال إلى النيابة العامة، ثم إذا اقتنعت النيابة العامة من رأي وزارة التجارة (موظفي الضبط العاملين في الوزارة)، يحال إلى القضاء، ثم يستغرق الوقت سنوات، وإذا صدر الحكم على المخالف سيقوم بطبيعة الحال بطلب الاستئناف، وهكذا تمضي سنوات أخرى دون أن تتمكن الوزارة من إيقاع الغرامة، في حين التعديل المقترح [...] يحقق فاعلية أكثر في أداء الوزارة، فهي تقوم من خلال موظفي الضبط بضبط المخالف، ثم تحال القضية إلى اللجنة الإداريَّة المختصة لتطبق عليه الغرامة المنصوص عليها في النظام، وعليه تسديدها فورًا، ويحق له التظلم إذا رغب ذلك أمام القضاء المختص، فالمقترح بلا شك يحقق السرعة والفاعلية في إيقاع الغرامات على مخالفي نظام مكافحة الغش التجاري».
ويعتقد أن غياب اللجان الإدارية، سوف «يترتب عليه عدم تمكن الوزارات والأجهزة الحكوميَّة من تطبيق أحكام الأنظمة التي تختص بها، وسيجد المخالفون والمتلاعبون مجالًا لتجاوز النظام، ونضرب مثالًا ليتضح مقتضى الحال، ويؤخذ في الحسبان عند قياس الأثر التشريعي، فمثلًا لو أن محلًّا تجاريًا ارتكب مخالفة الغش التجاري وتم ضبطه من قبل وزارة التجارة، ثم أحيل إلى النيابة العامة، ثم أحالته إلى المحكمة الجزائية، ثم أصبحت الدعوى كأنها بين مدعٍ ومدعى عليه، ومضت سنوات، ثم صدر الحكم ثم طلب المخالف الاستئناف في القضية، وتمضي السنوات وهذا المحل المخالف للنظام لم يعاقب. لا شك أن المحلات الأخرى تشاهده وترتقب نتيجة ضبط المخالفة، ولكنها ترى أن هذا المحل ما زال يعمل ويبيع، ومضت سنوات دون أن يعاقب. هذا السلوك سيؤدي إلى جعل المحلات الأخرى تخالف؛ لأنها لم تر عقوبة فورية قوية وزاجرة».
وفي الكتاب يسوق المؤلف أمثلة أخرى ليدعم وجهة نظره حول أهمية تفعيل اللجان الإدارية وتفريقها عن اللجان شبه القضائية. يؤكد أن هذا متطلب أساسي لدعم التطوير التشريعي الذي ينعكس على هيبة الدولة. ويوضح أن التحفظ على إنشاء اللجان القضائية لن يؤثر على تحقيق العدالة. ويرى «أن ذلك ليس فيه مخالفة للأمر الملكي الخاص بالترتيبات القضائية. ولعل من المناسب أن ندرك أن القول بغير ذلك فيه خطورة؛ لأنه قد يؤدي إلى إعاقة عمل الجهات الحكوميَّة من تنفيذ مهامها التي نصت عليها الأنظمة، ويحد من إنتاجيتها وتحقيق مستهدفاتها، مع وجود الضمانة لمن صدر ضده القرار الإداري في التظلم أمام القضاء المختص».
والالتفات إلى مثل هذه الأمور يضعه الدكتور الجرباء في أولويات المرحلة الراهنة حتى يدعم التحولات التنظيمية والتشريعية الواسعة والإيجابية. وما يتطلع إليه من خلال هذا الطرح العلمي والعملي الجريء الذي يتجاوز التنظير هو الإجابة على هذا السؤال الجوهري: هل نقيس آثار الأنظمة والقرارات قبل وبعد صدورها؟ وهل لدينا البنية المؤسسية والمنهجية التي تجعل من التشريع أداة تغيير إيجابي، لا مجرد أداة تنظيم إداري؟
يرى الجرباء أن التشريعات بدون أدوات قياس دقيقة تشبه من يكتب خارطة بلا بوصلة. وهو يشير بوضوح إلى أن بعض القرارات التنظيمية الصادرة في العقود الماضية، رغم نواياها الحسنة، جاءت بنتائج عكسية، بسبب غياب تحليل الأثر المبكر، أو بسبب تجاهل الآثار الجانبية الاجتماعية والاقتصادية. يرى أن القرار الجيد ليس فقط ما يُتخذ، بل ما يُدار ويُراجع باستمرار وفق معايير موضوعية.
ومن تجربته الطويلة يقدم مقترحاً لإنشاء مركز وطني متخصص ومستقل لقياس الأثر التشريعي، لا يتبع جهة تنفيذية مباشرة، بل يرتبط بهيئة عليا مثل مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية أو هيئة الخبراء، أو مجلس الشورى. نطاق عمله يتركز على أمور أساسية مثل:
* إعداد نماذج ومعايير تحليل الأثر (RIA).
* مراجعة المشاريع التنظيمية الكبرى.
* بناء قاعدة بيانات مرجعية للأثر.
* دعم الجهات الحكومية لبناء قدراتها في التقييم القانوني.
وفي رأيه، هذا المركز لن يكون مجرد جهة رقابية، بل ذراع استراتيجي للتقويم المستمر، وجسر بين التشريع والمجتمع.
هناك أمور حيوية عديدة تناولها الدكتور الجرباء، ونظراً لأهميتها تستحق أكثر من مقال.