د. محمد بن أحمد غروي
منذ تأسيسها، حرصت رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) على بناء نموذج تعاون إقليمي يستند إلى دعم أعضائها وتعزيز نموهم الاقتصادي، مع الانفتاح على شراكات متنوعة مع قوى دولية متعددة، وعلى مدار العقود الماضية، استطاعت الرابطة أن ترسّخ حضورها كمنصة مؤثرة في هندسة التعاون الإقليمي، وتتحول تدريجيًا إلى لاعب دولي يوازن بين التنافس والتكامل.
لا تقتصر أهمية آسيان على موقعها الجغرافي الحيوي ودورها الجيوسياسي فحسب، بل تمتد إلى ثقلها الاقتصادي المتنامي على المستوى العالمي، فقد تجاوز الناتج المحلي الإجمالي لدول الرابطة 3.3 تريليون دولار أمريكي، لتُصنَّف كأكبر ثالث اقتصاد في آسيا، وخامس أكبر اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتحدة، الصين، اليابان، وألمانيا، ووفقًا لتقديرات 2024، من المتوقع أن تنمو اقتصادات دول آسيان بنسبة 4.6 في المائة، متفوقة على الولايات المتحدة (1.8 في المائة) والاتحاد الأوروبي (1.1 في المائة).
ويُبرز الأداء الاستثماري للرابطة هذا الزخم، إذ جذبت أكثر من 400 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال العامين الماضيين، منها 230 مليار دولار في عام 2023 وحده - وهو رقم قياسي يعكس مدى الثقة الدولية في استقرار بيئة الأعمال الآسيوية وتنوع فرصها، ويعكس هذا التدفق بنية اقتصادية واعدة تستفيد من تركيبة سكانية شابة، وموقع محوري في سلاسل الإمداد العالمية، ووفرة في الموارد.
تؤكد بيانات التبادل التجاري عمق الارتباط بين آسيان وكبريات القوى الاقتصادية في العالم، حيث ارتفعت التجارة مع الصين بنسبة 15 في المائة خلال عام 2024، ومع الولايات المتحدة بنسبة 12 في المائة، بينما حافظت التجارة مع الاتحاد الأوروبي على مستوى مرتفع بلغ 258.7 مليار يورو، ما يجعل الرابطة ثالث أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي خارج أوروبا، وتترجم هذه الأرقام قدرة آسيان على تنويع علاقاتها التجارية دون التفريط باستقلال قرارها السياسي.
كما تضطلع آسيان بدور فاعل في إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، عبر بلورة خطاب سياسي يوازن بين الطموحات الاقتصادية والسعي إلى الاستقرار الإقليمي، وتُظهر الرابطة مرونة مؤسسية عالية في مواجهة التحديات، مستندة إلى تنوع مكوناتها ونهجها التوافقي.
ويُجمِع المراقبون على أن السياسات الخارجية لدول الرابطة تتسم ببراغماتية دقيقة، حيث تحرص على الموازنة بين مصالحها الوطنية والانخراط مع القوى الكبرى دون ارتهان لطرف معين، كما أن الرابطة تُقدّم اليوم نموذجًا لما يُعرف بـ»التحالف الاستراتيجي المتعدد»، الذي يوفّر هامشًا أوسع للمناورة وسط الاستقطابات الحادة في النظام الدولي.
هذا النهج المتقدم يتجلى بوضوح في سلسلة من الشراكات الحوارية التي عقدتها آسيان مع الصين، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، فضلًا عن الشراكات القطاعية مع دول مثل باكستان، والنرويج، وسويسرا، كما عملت على توسيع تعاونها التنموي مع فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، ما يعكس سعيها لبلورة شبكة تحالفات متنوعة تخدم أهدافها الاقتصادية والتنموية.
وفي خطوة تعكس انفتاحًا استراتيجيًا، عززت آسيان شراكتها مع مجلس التعاون الخليجي، من خلال عقد قمتين مشتركتين في عامي 2023 و2025، وسط توقّعات بأن تُسهم هذه الشراكة في توليد تدفقات تجارية تُقدَّر بنحو 50 مليار دولار بحلول عام 2027، كما يُتوقع أن يبلغ حجم الاقتصاد الرقمي في منطقة آسيان تريليون دولار بحلول عام 2030، ما يضعها في مصاف الأسواق الرقمية العالمية الصاعدة.
أما من الناحية السياسية، فتسعى آسيان إلى لعب دور الوسيط لا الخصم، إذ تتبنّى نهجًا متوازنًا في التعامل مع التوترات الجيوسياسية، خصوصًا في ظل التنافس بين الولايات المتحدة والصين، فالرابطة لا تنخرط في اصطفافات حادة، بل تحرص على دعم الاستقرار، وتعزيز ثقافة الحوار، والمساهمة في معالجة النزاعات الإقليمية، ومن أبرزها الأزمة في ميانمار.
هذا التوجه برز بوضوح في التصريحات الأخيرة الصادرة عن وزراء خارجية آسيان خلال اجتماعهم في كوالالمبور، حيث دعوا القوى الكبرى إلى «إدارة خلافاتهم بطريقة بناءة ومسؤولة»، وأكدوا أهمية إبقاء المنطقة آمنة ومزدهرة، كما شددوا على ضرورة الاستفادة من منصات وآليات الرابطة في دعم التعاون الخارجي، وتعزيز رؤية آسيان للمحيطين الهندي والهادئ (AOIP).
التحوّل اللافت الذي تشهده الرابطة في السنوات الأخيرة يتمثل في انتقالها من مرحلة التحفّظ السياسي إلى الانخراط العملي المدروس في المحافل العالمية، فبعد سنوات من النزعة الإقليمية الحذرة، باتت آسيان تسعى إلى ترسيخ دورها كقوة توازن في النظام العالمي، توفّق بين الواقعية السياسية، والانفتاح الاقتصادي، والتعددية الدبلوماسية.
وفي ظل المتغيرات المتسارعة التي يشهدها النظام الدولي، تبرز آسيان اليوم كأحد النماذج الأكثر عقلانية في إدارة العلاقات الدولية، وهو ما يمنحها موقعًا متقدمًا في صياغة مستقبل التوازنات العالمية.