د. فهد صالح عبدالله السلطان
استكمالاً للجزء الأول من هذا المقال.. نستأنف استعراض بعض أكبر المهددات الحالية للبشرية من وجهة نظري.
ثالثا: مفهوم الحضارة والتقدم:
لقد عملت الرأسمالية طوال العقود الماضية على تأصيل النموذج المادي للتنمية، وهو نموذج يرتكز على تقديس البعد المادي للتنمية وفقا للنموذج الغربي الذي يستند إلى مؤشرات مادية لقياس مستوى التقدم الحضاري، مثل الناتج المحلي الإجمالي ومعدل البطالة ونصيب الفرد من الدخل ومعدل الأعمار والرفاه المادي.. إلخ، وهي في مجملها تغفل المعايير الروحانية التي تهتم بقياس مدى السعادة الروحانية الحقيقية والقيم والروابط الأسرية والعلاقة والتواصل الاجتماعي والصحة النفسية والإيمان وتراجع معدلات الإباحية والشذوذ والجريمة.. إلخ.
والذي يبدو هو أن حصر مفهوم الحضارة والتقدم وقصرها على التقدم الاقتصادي والرفاه المادي وفق النموذج الغربي من أكبر مهددات البشرية خطورة؛ ذلك لأن الإيمان بهذا المفهوم يفضي إلى توجيه جهود التنمية في بعض المجتمعات للتركيز على هذا الهدف المادي وتركيز مؤشرات الأداء في برامج التنمية المحلية وقصرها على تحقيق نسبة معدلات جيدة فيه وفق ذات المفهوم، وهنا مكمن الخطورة. وغني عن القول إن هذا النموذج أثبت فشله وتأثيره السيئ على تلك المجتمعات.
فبنظرة سريعة إلى الناحية الاجتماعية وجودة الحياة في المجتمع الأمريكي على سبيل المثال، تؤكد الحقائق والمعلومات تراجع معدل الأمن الداخلي بشكل ملحوظ.
فعلى سبيل المثال تم تسجيل 21.570 جريمة قتل في الولايات المتحدة سنة 2020، وهو من المعدلات الأعلى عالميًا. وتأتي السجون الأمريكية في صدارة السجون في العالم من حيث عدد المساجين حيث يوجد فيها نحو مليونَي سجين، يمثلون 25 % من المساجين في العالم.. هذا فضلا عن اتّساع المشاكل المرتبطة بالهجرة واللجوء، وزيادة مظاهر العنصرية والتوترات الاجتماعية، والعجز المتزايد لدى الطبقات الاجتماعية المتوسطة عن توفير الرعاية الصحية والتعليمية وشراء المساكن، وزيادة مظاهر العنف المسلح وارتفاع معدلات الجريمة وتعاطي المخدرات والإباحية والاعتداء الجنسي والإساءة للأطفال والشذوذ وارتفاع معدل الديون على الأفراد.
وبالمجمل، فلم يعد النموذج الغربي للتقدم والحضارة مغريا للأخذ به ومحاكاته، بل لم يعد مقبولا لدى كثير من المجتمعات العالمية.
أعتقد أن هذا المهدد يحمل رسالة واضحة للمجتمعات التي تنشد النمو الطبيعي والحياة الاجتماعية السليمة للوقوف مع ذاتها وإعادة صياغة نموذج تنموي يأخذ في الاعتبار القيم والمبادئ الإنسانية والحاجات الروحانية والاجتماعية بالإضافة للاحتياجات الاقتصادية والمادية.
هيمنة الشركات العملاقة
المتتبع لنمو القوى والكيانات العالمية يلاحظ تطورا غير مسبوق فيما يتعلق بتوسيع دائرة النفوذ بين الحكومات الرسمية والكيانات الأهلية، خاصة في الدول الغربية.
بتاريخ 12-12-2021 كتبت مقالا في هذه الجريدة الرائعة تحت عنوان «من سيحكم العالم» تضمن توقعا بأن موازين التأثير والنفوذ في العالم المتقدم، وخاصة العالم الغربي، سيميل لصالح الشركات الأهلية العملاقة على حساب الحكومات، وأنه لم يعد خافياً على ذي بصيرة تلك التطورات الجذرية التي حدثت وتحدث في العقد الثالث من هذا القرن، والتي غيّرت المشهد العالمي في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والتقنية والأيديولوجية.
وخلاصة الطرح السابق هو توقع الكاتب بأن الشركات العملاقة في الدول العظمى ستتقاسم الهيمنة المحلية والعالمية مع حكوماتها، وسيبقى النفوذ العسكري الحسي بيد الحكومات، ولكن القوة الناعمة ستميل لصالح الشركات التي سيكون تركيزها على الهيمنة أو الاستعمار الناعم خاصة الجانب الفكري.
خلال السنوات العشر الماضية تغيّرت مصادر القوى تبعا للتغير الرديكالي في امتلاك الثروات، وأصبحت ميزانيات بعض الشركات العملاقة تزيد على ميزانيات عدة دول؛ فعلى سبيل المثال بلغت القيمة السوقية لشركتي أبل ومايكروسوفت وحدهما في الربع الأخير من العام الماضي أكثر من (6 تريليون دولار)، وهو ما يفوق مجموع الناتج المحلي الإجمالي لعدد ستة عشرة دولة مجتمعة.
أما شركة إنفيديا التقنية فقد حطمت قيمتها السوقية الحالية والبالغة 4 تريليونات دولار الأرقام القياسية وبما يفوق ميزانيات معظم حكومات العالم..
كما أن تلك الشركات لم تعد تحتاج -كما هي الحال في الأجهزة الحكومية- إلى أجهزة استخباراتية للحصول على المعلومات المهمة عن الشعوب والأفراد، بل إنها أصبحت تتفوق على حكوماتها في سهولة الحصول على المعلومات بجهود متواضعة وتكاليف منخفضة وقدرات هائلة، سهلت عليها معالجتها وتوظيفها بما يخدم مصالحها.
كل هذا أدى إلى ظهور حكومات جديدة، ولكنها من نوع آخر؛ فهي حكومات أهلية خاصة وليست عامة، وأصبح أثر بعضها يتعدى أثر عدد من حكومات الدول مجتمعة.
لقد غيرت تلك التطورات الهيكل العالمي للسلطة وموازين القوى العالمية وبسط النفوذ الفكري وترويج الأيديولوجيات!! ففي الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وحتى بداية العقد الثاني من هذا القرن 1945- 2011 كان المحرك الأساسي للتنمية المحلية للدول هو الجهاز الحكومي، الذي كان يسيطر على معظم، إن لم يكن كل، أبعاد التنمية، اقتصادية أو أيديولوجية أو غيرها، لكن الذي يبدو أن حدثاً تاريخياً كبيراً في مطلع العقد الثاني من هذا القرن غيّر معايير اللعبة وغيّر اللاعبين.
في القريب العاجل ربما نرى تأثيرات اجتماعية وأيديولوجية واقتصادية كبيرة لبعض الشركات العملاقة في العالم حتى على المحليات البعيدة عنها.
لقد تعدت أهداف تلك الشركات مجال اختصاصها التجاري، وأصبحت تروّج لمفاهيم اجتماعية وأيديولوجية واقتصادية بل وسياسية.. إلخ عبر أدواتها وأذرعها التقنية التي سهلت لها النفاذ Penetration إلى داخل المجتمعات المحلية والتغلغل في عقول أفرادها. ولا شك أنّ من يؤثر في العقول سيتمكن يوماً ما من توجيه السلوك! وهنا هو مكمن الخطر والمهدد البشري الذي يحاول الكاتب التذكير به والتحذير منه.
و باختصار، فإن الشركات العملاقة في الدول العظمى ستتقاسم النفوذ والهيمنة مع حكوماتها، وسيبقى النفوذ العسكري الحسي بيد الحكومات، ولكن القوة الناعمة ستميل لصالح الشركات التي سيكون تركيزها على الهيمنة الاقتصادية والاستعمار الفكري الناعم.
بقيت النقطة الأهم في الموضوع، وهي ما لذي يتوقع من المجتمعات أن تعمله؟
دعونا أولاً نستعرض ردود الفعل العالمية المتوقعة، مستوحاة من التجربة التاريخية.
في الغالب ستنقسم المجتمعات تجاه ما يحدث من تطورات إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: وهم أصحاب ردود الأفعال، وهذه الفئة تقضي وقتها في التشجيع والجدل والاستهلاك، وانتظار ما يحققه الآخرون من إنجازات والاكتفاء بالانبهار بها. وفي أحسن الأحوال اقتناؤها وتبنيها كما جاءت، من دون تكييف لها على البيئة المحلية أو معرفة للأبعاد والتبعات المترتبة على اقتنائها واستعمالها.
المجموعة الثانية: هي التي تعتزم شراء وتبني الجديد، ولكن بعد قراءته قراءة متأنية، وفهمه والتدرب على استخدامه الاستخدام الأمثل الذي يتناسب إلى حد كبير مع احتياجاتها.
المجموعة الثالثة: وهي التي تعمل على المشاركة في امتلاك مراكز المعرفة (مصادر القوة)، وتشارك في التفكير والبحث والتطوير، وتساهم في صناعة الحدث وصياغة المستقبل بدلا من انتظار ما سيصل اليه الآخرون.
هنا يكمن الاختيار، وهنا يكون القرار، وعلى كل مجتمع أن يختار!
والله الهادي إلى سواء السبيل.