د. عبدالحليم موسى
نحاول في هذا المقال الوقوف على فلسفة العقاد بين الفكر والزمن والقلم؛ ثلاثية ظلت محور حياته بين ساعات طوال بين الكتب يعشقها ويخاطبها ويبث همومه وشكواه لها وهي تستجيب لكل ذلك ونأخذ العقاد في مركبتنا لتبحر بنا عبر الزمن حتى يحط رحاله في عام 2025، لنعرف كيف يتعامل مع زماننا؟
في زمن تتسارع فيه التقنية وتتغير فيه أنماط التفكير تحت وطأة الذكاء الاصطناعي والانفجار المعلوماتي، تعود إلى الأذهان صورة المفكر الذي لم يكن أسيرا لعصره، بل سيدا للكلمة، وحارسًا للفكر، وسادنا للزمن: عباس محمود العقاد. نحاول في هذا المقال أن نعيد قراءة العقاد من خلال ثلاثية شكّلت جوهر حياته ومسيرته: الفكر، والزمن، والقلم. ثلاثية لم تكن لديه مجرد أدوات، بل أبعاد وجودية جعلت من كتبه مرآة لعقله، ومن قلمه عصا يفك بها شفرات عصره، ومن الزمن مادة خام يعيد صهرها في بوتقة التأمل.
العقاد لم يكن كاتبا يعيش بين الكتب، بل عاشق لها، يخاطبها، ويشكو إليها، وستنطقها، فيستجيب له الحرف ويشفّ له المعنى. كان يرى أن الفكر ليس ترفا ولا زخرفا، بل ضرورة إنسانية لا يستقيم الوجود من دونها. فالفكر عنده موقف، والزمن اختبار، والقلم مسؤولية. ولهذا لم يكتب ليواكب أحداث يومه، بل ليؤسس لمعنى يتجاوز اللحظة ويخاطب الإنسان في كل عصر.
ونحن نحمل العقاد في مركبتنا عبر الزمن، ونحط به في عام 2025، نطرح سؤالا فلسفيا لا يخلو من خيال: كيف كان سيتعامل مع عالم الإنترنت، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والثقافة الرقمية المتشظية؟ الأرجح أنه كان سيتقدم إلى هذا الواقع الجديد كعادته، لا منبهرا، بل متفكرا، ناقدا، فاحصا.
الإنترنت، بما يحمله من فرص غير مسبوقة للمعرفة، كان سيدهش العقاد من حيث السرعة والانفتاح، لكنه أيضًا كان سيحذّر من المعرفة السطحية، ومن تشيئ الفكر وتحويل القارئ إلى مستهلك سريع لا إلى عقل فاعل؛ فالعقاد الذي كتب ذات مرة أن «كل علم لا ينتهي إلى فكرة، فهو جهل متنكر»، كان سيكررها في وجه التراكم الرقمي المعاصر، الذي يغرق العقل في وفرة لا تغني، وسرعة لا تعمّق.
أما الذكاء الاصطناعي، فقد كان ليثير فيه أسئلته الوجودية الكبرى. العقاد الذي فرّق بذكاء حاد بين «الذكاء» كأداة، و»الفكر» كوعي، كان سيرى أن الذكاء الاصطناعي مهما بلغ من قدرات لن يحل محل الإنسان، لأن الآلة لا تملك ضميرا، ولا تعاني من قلق، ولا تطرح أسئلة وجودية. الفكر عنده ليس جمعًا للمعلومات، بل موقف أخلاقي، ومخاض داخلي، وشكّ يولّد يقينا.
فالعقاد في زماننا كان سيكتب عن الحرية في زمن التقنية، وكان سيقف في وجه الخضوع للتقنيات الجاهزة التي تهمّش العقل وتستبدل الإبداع بالتكرار. كما قال طه حسين عنه: «العقاد مفكر لا يستسلم للتيارات»، وها هو الزمن الرقمي بأمواجه العالية يحتاج إلى ذلك المفكر العنيد، الذي يواجه التيار ولا يكتفي بالسباحة معه.
ومن نافذة أدبية، نجد ميخائيل نعيمة يقول عنه: «إذا كان في الشرق كاتب عصيّ على الترويض، فلا شك أنه العقاد». عبارة تنطبق تماما على الموقف الذي كان سيتخذه من ثقافة اليوم، بثوابتها المتبدلة، وسرعتها التي تطحن التأمل، ومحتواها الذي يشبه الكثافة بلا جوهر.
كان العقاد، لو عاش بيننا، سيدعو إلى «فلسفة رقمية» لا ترفض التقنية، بل تعيد الإنسان إلى مركزها. فلسفة تحمي العقل من الغرق في البيانات، وتحفظ للإنسان مكانته كصاحب سؤال لا مجرد آلة بحث. كان سيدعو إلى غربلة المحتوى، واستعادة بوصلة الوعي، لأن الكثرة لا تعني العمق، والمعلومة ليست بديلًا عن الفكرة.
لقد آمن العقاد أن الإنسان لا يُقاس بما يمتلكه من أدوات، بل بما يحمله من فكر حر وضمير يقظ. وفي عصر تهيمن عليه الخوارزميات، تبقى وصيته الفلسفية حيّة: لا تنسوا أن العقل هو الفاعل، والضمير هو الحارس، والقلم هو الموقف.