د. محمد بن إبراهيم الملحم
هذا الرجل لا أعرفه شخصياً ولكني تعرفت عليه من خلال مقاطع تيك توك يبثها محبوه من مجالسيه من أهل الثقافة والعلم، سواء كانوا جيراناً له أو ربما هم بعض طلبته في السابق أو هم يأتون إليه لما عرفوا من حذقه باللغة نحوها وأدبها، ذلكم الرجل يدعى الأستاذ والمربي القدير محمد المسعد وهو رجل كبير تقدمت به السن وتقاعد من عمله التدريسي في المعهد العلمي بالرياض منذ مدة، بيد أن بديهته اللغوية ومعرفته النحوية واستشهاداته الشعرية حاضرة طوال الوقت فيطرح عليه مجالسوه هؤلاء قضايا وتساؤلات لغوية متعددة فتراه يجيب عنها بكل ثقة، بل إنه يفتخر من وقت لآخر بما حفظه من الشواهد والمعارف اللغوية ويتحدى من حوله أن يسألوه عما شاؤوا فيجيبهم، كما أنه يتحداهم ببعض الأسئلة الإعرابية أو النحوية، فترى ذلك المجلس عامراً بمتعة العلم والتعلم، وهو لا يدعي أنه عالم باللغة بقدر ما هو معلم متقن لتدريسه عاشق لفنه (أعني اللغة العربية نحوها وأدبها)، فلما تعاطاهما بحب في فترة طلبه للعلم أتقن وحفظ ووعى، ثم لما أكمل رحلته معها معلماً في المعهد العلمي تأكدت تلك المعرفة وترسخت محفوظاته بكل تفاصيلها وشواهدها وإشكالاتها وتنوعاتها، كيف لا وهو معلم من الرعيل الأول في المعاهد العملية التي تنطوي مقرراتها المنهجية الدراسية على كتب لغة وأدب دسمة ذاخرة بالعلم والمعرفة قام على تأليفها أساطين هذه الفنون من جامعة الإمام محمد بن سعود المغرقة في عراقة عنايتها بقوة العلم والمعرفة، كما تتوج مقرراتها في المراحل المتقدمة لهذه المعاهد بتدريس شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك، ولهذا حق لهذا المعلم أن يتقن مادته أيما إتقان ويحذق فنها وتتمكن فيها حافظته، ليقف وهو شيخ هرم موقف المتحدي في مجلسه ذاك ويقول لمريديه سلوني ما شئتم سأجيبكم، وإذا ما سئل في مشكل العلم وغرائبه يردد مقولة «على الخبير وقعت» التي قالها الشاعر الجاهلي الحارث بن حلزة اليشكري خلال محاججته لقبيلة تغلب أمام الملك عمرو بن هند.
ليس هدفي الحديث عن شخص هذا الرجل، وهو يستحق ذلك بدون شك، لكنما استثارتني قوة علمه وتمكنه وحبه لمادة تدريسه والتي هي من أصعب المواد تقريباً لدى طلبة المعاهد العلمية، فهو بهذا الاعتبار يقدم كأنموذج عطاء تدريسي والمعلم المحب لمادته وتخصصه والمحب لمهنته، إن هذا النوع من المعلمين هو ما تطمح له كل مدرسة جادة ترغب أن تكون في صدارة المدارس ويحقق طلبتها أعلى المستويات، كما يحتاجه كل طالب طموح أن يشكّل شخصية معرفية قوية واثقة، كما يتمناه معلماً لأبنائه كل ولي أمر تواق لتفوقهم وتقدمهم العلمي على وجه الحقيقة لا على وجه الصورة التي تصنعها درجات الاختبارات، وهو في الواقع هدف وغاية كل استراتيجية وتخطيط تعليمي لتطوير التعليم والارتقاء به من خلال محور المعلم، فعندما يطرق سمعك حديث عن المعلم وأهميته الكبرى لتقدم التعليم فاعلم أن المقصود هو على مثال هذه العينة الراقية من المعلمين الأوفياء لتخصصهم المحبين لمهنتهم الصادقين في عطائهم وليس سائر المعلمين المتعاملين مع التدريس كوظيفة لكسب الرزق فقط، ولو سألنا أنفسنا اليوم كم يا ترى يوجد بين معلمينا اليوم من يمتلك مثل هذا الإتقان لتخصصهم فيثروا طلابهم ويرتقوا بمعرفتهم! وقبل هذا سنسأل كم يوجد من أساتذة الجامعات من يتمكن من تخريج طالب بهذه القوة المعرفية، لا بتصعيب الاختبارات وتعسير المعرفة وخلق التحديات أمام الطالب، ولكن بتقديم القدوة الحسنة له في تمكن أستاذه وقوة تدريبه على مختلف قضايا تخصصه (سواء ضمن المذكرة التي يدرسها لطلابه أو خارجها وهو الأهم)، وإذا وجد مثل هذا المعلم المتمكن في مدارسنا فسوف نسأل أيضاً كم من الطلاب يحتفي بمثل هذا المعلم المتمكن ويعطيه قدره ويطلب العلم منه ويراه مكسباً له لينهل من علمه وفنه! والسؤال هنا ليس على سبيل لوم الطلاب إن لم يوجد مثل هؤلاء، فليسوا هم من يوجدون أنفسهم بهذا النمط وإنما تتشكل شخصياتهم وطموحاتهم بمجتمعهم ومحيطهم، ولذلك ينطلق السؤال خارج الطالب: إلى الأسرة إلى المدرسة إلى المؤسسة التعليمية الكبرى واضعة السياسات والمناهج، ثم إلى مؤسسات المجتمع التي يفترض أن تنشر فضيلة التعلم الحقيقية وترتقي بأفضل المتعلمين وترفض التمشهد (حيازة الشهادات والدرجات فقط) فبكل هذا سيوجد الطالب الذي يجعل لسوق هذا المعلم قيمة ويفيد منه ويحث كل المعلمين على أن يكونوا مثله (قاعدة العرض والطلب).
أخيراً أشكر الأستاذ الفاضل والشيخ الوقور المربي محمد المسعد (الذي لا أعرفه أبداً) وشكراً لمحبيه الذين ينشرون مقاطع له في مجلسه بكل تلقائيته وجميل حديثه النحوي الماتع والذي يقدمه أحياناً باللهجة النجدية اللطيفة، فأمد الله في عمره على طاعته، ولعل آخرين يظهرون لنا عبر السوشال ميديا نماذج مشابهة من هؤلاء المعلمين أينما وجدوا فإن ذلك مما يثلج الصدر.