نجلاء العتيبي
في كثير من المواقف لا يكون الخطأُ في سوء النية، بل في استعجال الظنِّ حين تنفردُ العاطفة برسم الملامح وتشكيل الأحكام، فبعضهم قد ينجرفُ وراء شعور لحظي عصبي فينحاز لموقفٍ أو يُدين آخر بناءً على ما تخيَّله أو سمعه عَرَضًا لا على ما رآه وتثبَّت منه بعقله وعينه وأذنه.
إن المشاعرَ حين تُترَك وحدها دون كوابح من تبصُّرٍ وهدوءٍ وعقلانيةٍ قادرةٌ على تضليل البصيرة، وقد تجعل من الباطل حقًّا ومن البراءة ذنبًا، وليس المقصود هنا التنكُّر للعاطفة، بل التعامل معها بحذرٍ، والاعتراف بأنها أحيانًا تُسهم في تشويش الرؤية لا توضيحها إذا لم تُصاحَب بإدراكٍ راشدٍ، فليس كل ما يُلامس القلب في لحظات الانفعالات صادقًا، ولا كل ما يُروى من حكاياتٍ كافيًا لبناء رأيٍ متينٍ.
إن ميزان الإنصاف لا يعتدلُ إلا حين تتكاملُ أدوات الإنسان: سمعُهُ، وبصرُهُ، وقلبُهُ، وكلُّ واحد من هذه الأركان ليس مُعفًى من المحاسبة، كما جاء في قوله تعالى:
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
فالآية ليست مُجرَّد توجيه أخلاقي عظيم، بل هي مبدأ إنساني عميق يدعو الإنسان إلى التيقُّن والتثبُّت، وإلى ألَّا يتبع ما لا يعرفه حقًّا حتى لا يُساء للآخرين من حيث لا يدري، ولا تُظلم المواقف بسبب روايات غير مكتملة أو تصوُّرات مسبقة.
والحقُّ أن بعض الصور لا تكتملُ إلا بعد أن تُرى من زوايا متعددة، وبعض الكلمات لا تُفهَم إلا إذا سُمعت في سياقها، ومن أسوأ ما يمكن أن يُرتكَب في حق إنسان أن يُؤخَذ عليه موقفٌ لم يُشاهَد بعين الحقيقة، أو يُبنَى عليه حكم لم يستند إلى وعي أو تحقُّق، فالأذى الذي يصدر من كلمة متسرِّعة قد يدوم أكثر من جراح الأفعال.
لهذا فمن الحكمة والإنصاف أن نُمهل أنفسنا فرصةً للتروِّي، وأن نمنح المشهد حقَّه في الاكتمال، ونُعطي الشهادة وقتَها لتتجلَّى بصدقٍ، ونتيح للحقيقة مجالها حتى تتضح بلا استعجال.
فالتثبت ليس تردُّدًا وضعفًا بأخذ مواقف معينة كما يُظَنُّ! إنها علامةُ نضجٍ واتزانٍ، والعدل لا يَنهضُ به إلا من أدرك أن الكلمة لها تبعاتٌ، وأن الإنسان يُسأل عمَّا سمع وأبصر واعتقد وفعل، أيضًا حسنُ الظنِّ لا يعني التغافل عن التحقُّق والتأكُّد، كما أن الطيبة لا تُبرِّر التهاون في وزن المواقف بميزان الإنصاف.
إن التأنِّي، الصدق، العدل هي ركائزُ الحكم السديد كلَّما اجتمعت؛ أصبح الحكم أقربَ إلى الصواب، ومَن تمسَّك بها حفظ نفسه من الزلل، وقلَّت مساحاتُ الندم، وجنَّب غيره مغبَّة الظلم.
ضوء
«عندما تنتقدُ شخصًا ما، يجب أن تتحدَّث فقط عن تجربتك الخاصة، وليس تجربة الآخرين». إيمي ديكنسون.