د. عبدالحق عزوزي
استقبلنا ذات مرة وزير خارجية الاتحاد الأوروبي السيد جوسيب بوريل، والذي قبلها كان وزيرا لخارجية إسبانيا، في إطار أنشطة الجامعة الأورومتوسطية بفاس، حيث أعطى كلمة فكرية جامعية رزينة ومؤثرة في احتفالية تخرج إحدى الدفعات من طلبة الجامعة في تخصصات عدة.
ونشير هنا إلى آخر إسباني شغل منصب وزير خارجية الاتحاد الأوروبي هو السيد خافيير سولانا (1999 - 2009). بمعنى أن إسبانيا عادت، بعد عشر سنوات، إلى الخطوط الأمامية لمؤسسات التكتّل في الاتحاد الأوروبي؛ وكان قد تم تعيين شخص مُعتمد ذي خبرة لتولّي منصب حيوي في السياسة الخارجية والدفاع المشترك في عالم يعج بالفوضى واللايقين وقد نجح بشهادة العديد من الخبراء في مهامه الصعبة. والسيد جوسيب بوريل هو سياسي مخضرم منذ 1993، ورجل دولة ذو تجربة كبيرة، التحق بصفوف «حزب العمال الاشتراكي» في إسبانيا قبل نحو 45 عاماً، وانتُخب لعضوية البرلمان في عديد من الدورات، كما شغل منصب رئيس البرلمان الأوروبي بين عامي 2004 و2007 .
في كلمته في احتفالية الجامعة الأورومتوسطية التي ألقاها باللغة الفرنسية تحدث عن مسيرته الطلابية كتقني ومهندس دولة تمكن من الدراسة في أعرق الجامعات الإسبانية وكيف يمكن للطالب أن يصل عبر سنوات من الجد والاجتهاد إلى ما يمكن أن يحقق رخاء الوطن والمنطقة؛ أعطى توجيهات ونصائح لمن سيحمل لواء تسيير المؤسسات والشركات والشأن العام، ورأيته سواء في تدخله أو عندما رافقناه من المطار إلى الجامعة أنه يتكئ على جدار فكري وأيديولوجي عقلاني في رؤيته وتعاطيه مع الأحداث السياسية في العالم؛ ووجدته محبا للأسرة المتوسطية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك وللإرث الحضاري والتاريخي والثقافي واللغوي الغني الذي يجمع بين المغرب وإسبانيا؛ ونحن نتذكر أنه عندما شهد المغرب حدثا استثنائيا بزيارة قداسة البابا فرنسيس الأول، وبعد الزيارة الأولى التي قام بها للمغرب البابا يوحنا بوليس الثاني سنة 1985، حرص جلالة الملك محمد السادس كما جاء في خطابه الذي ألقاه بأربع لغات على أن يعبر مكانه، عن الرمزية العميقة، والحمولة التاريخية، والرهان الحضاري لهذا الحدث، فالموقع التاريخي، الذي احتضن اللقاء، جمع بين معاني الانفتاح والعبور والتلاقح الثقافي، وشكل في حد ذاته رمزا للتوازن والانسجام. فقد أقيم بشكل مقصود، في ملتقى نهر أبي رقراق والمحيط الأطلسي، وعلى محور واحد، يمتد من مسجد الكتبية بمراكش، والخيرالدة بإشبيلية الإسبانية، ليكون صلة وصل روحية ومعمارية وثقافية، بين إفريقيا وأوروبا.
ألح الوزير كما جاء في باقي التدخلات على النظر إلى المستقبل وعلى الإبداع المنشئ للتنمية في البلدان؛ فلو اكتفى الإنسان بعملية إضاءة الشمعة فقط دون النظر إلى البديل لما اهتدى إلى المصابيح الكهربائية ودخول الكهرباء في جميع مناحي الحياة؛ ولذلك أقول ونحن قد خصصنا العديد من مقالاتنا الأخيرة إلى موضوع الجامعة والبحث العلمي لأهمية ذلك في أوطاننا، أن مواضيع من قبيل «الموجة الثالثة» و»المجتمع ما بعد الصناعي» و»مجتمع تكنولوجيا المعلومات» و»مجتمع التواصل» و»مجتمع اقتصاد المعرفة» و»القرية الكونية» و»رأسمالية الثقافة» و»مجتمع الشبكة» و»الطفرة التكنومعلوماتية» توحي إلى الحالة التي وصلت إليها النظرة المستقبلية الصائبة للمجتمعات؛ وهي كلها إن دلت على شيء فإنما تدل على ارتباط تلكم البلدان «المستقبلية» بعالم الإنتاج وسوق العمل وتوزيع الثقافة والفنون والعلوم والسلع والخدمات والمعلومات بالرأسمالية التي تتغذى منها، ويتم ذلك عن طريق وسائط الاتصال والمعلومات... وتتوقف تلكم السياسات العمومية الرشيدة عند العلاقة بين التقنية والمجتمع، حيث إن للأولى انعكاساً مباشراً على مستقبل الفرد والجماعة، وعلى سير المجالات الاقتصادية والمالية والعسكرية والسياسية بل والثقافية في إطار ما يصطلح عليه بالموجة الثالثة من الرأسمالية؛ كما أن التطورات العلمية، والحاجة إلى عقلنة وتدبير أقطاب دورة الإنتاج، ودراسة توقعات السوق المفاجئة وتداعياتها المباشرة، ومغادرة مهن ذات قيمة مضافة فضاء المجتمع الرأسمالي الجديد، توحي بأن الدول التي ركبت هاته الموجة فإنها على القطار الصحيح، وأن الدول التي لم تركب بعد قطار المستقبل هذا ستعاني أزمات أضعف من تداعيات الأزمة المالية التي عرفها العالم سنة 2008؛ وإذا لم تستطع الدول ابتكار منتوجات المستقبل المولدة لمهن الغد، وتحضير وإعداد الأجيال القادمة من أجل شغل وظائف المستقبل، فإنها ستغدو في المستقبل مجرد بلدان للسياحة.