د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الأحداث الأخيرة في العالم، والتي مازلنا نعيشها، مثل القضية الفلسطينية، ومآسي غزة، والنووي الإيراني وما ترتب عليه، وأيضاً حرب روسيا وأوكرانيا، أظهرت بوضوح أن الدور الأوروبي قد تقلص كثيراً، وأن النجم الذي كان ساطعاً قروناً مضت، أفل أو بهت ضوؤه، وهو في طريقه للأفول، وكان وراء ذلك مشاكل داخلية اقتصادية وسياسية وعلمية، وخلفه على السطح منذ الحرب العالمية الأولى، الولايات المتحدة الأمريكية أولاً، وهي القوة الأعظم في العالم الآن، عسكرياً، واقتصادياً، ومالياً، وقد نالت ما نالته بسبب الابتكار، وحسن توظيفه، مع نظام مستقر، وثابت، ولم تكتف بالابتكار وحسب بل طورته، ثم أخذت في غزو الأسواق الأخرى، وبعد الحرب العالمية الثانية تبين أنها القوة الوحيدة التي حسمت الموقف، وتعاظم بعد ذلك تأثيرها السياسي والاقتصادي والمالي، وتحت هذه الهيمنة فاجأ الناس الرئيس الأسبق نيكسون بالتخلي عن الذهب كغطاء واستبداله بالدولار، والمعروفة بصدمة نيكسون، وكان العذر في ذلك أن الثقة في الاقتصاد الأمريكي والدولار هو الضامن الأكبر لأموال الدول والشعوب بدلاً من الذهب، وكان محقاً في ذلك الوقت، وهنا أخذت أوروبا تتجه إلى الظل تحت الراية الأمريكية.
والصين ثانياً أخذ نجمها في السطوع بشكل متسارع في العقدين الأخيرين أو قبلها بقليل، ويبدو أن ذلك التسارع سيظل مستمراً، وقد أتيح لي مشاهدة ذلك عن كثب، وفي قلب الصين عندما أمضيت هناك نحو أربع سنوات، ابتداء من عام ألفين وكان معدل النمو آنذاك نحو ثلاثة عشر في المائة، والتغيرات العلمية وتهيئة البنية التحتية على قدم وساق، وكانت النقطتان الأساسيتان هما الإنتاج الغزير من السلعة الواحدة لخفض السعر الذي لا يمكن منافسته، وكذلك فتح أسواق كثيرة لاستيعاب المنتج، وإرجاء تحسينه إلى أوقات لاحقة، ومحاولة مجارات المنتجات ذات الجودة العالية في العالم من خلال المحاكاة، والتطوير الذي يحتاج إلى وقت، وكانت الجامعات كما رأيتها بنفسي تلهث وراء المعلومة والتطوير حتى أصبحت على ما هي عليه الآن، وأصبح الإنتاج العلمي الغزير، والكوادر العلمية البشرية الكثيرة أساساً لهذه القاعدة الإنتاجية الهائلة، والجاذبة للاستثمار، بما في ذلك إنشاء مصانع أمريكية وأوروبية ويابانية، وغيرها هناك، لتوفر الأيدي العاملة، ورخصها نسبياً.
في ظل هذه المعطيات، وعدم قدرة أوروبا على المنافسة والمزاحمة، وبعدها عن الابتكار بشكل غريب ولافت، أصبحت أقل قدرة عسكرية وبناء لاقتصادها، ولم تجدِ محاولة إنشاء الاتحاد الأوروبي، ثم توحيد العملة، وفيما بعد خرجت بريطانيا من الاتحاد بعد استفتاء نتائجه متقاربة جداً، بل تكاد تكون متساوية، وكان ذلك تحت تأثير وهج دعوى التأثير غير المناسب القادم من الشرق الأوروبي، وأيضاً تأثير التقيد بالقوانين الأوروبية لاسيما القضائية على المواطن البريطاني، ولا ننسى تأثير دخول دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي ذات الثقافة الإنتاجية المختلفة عن أوروبا الغربية، لكن كانت الغاية آنذاك سياسية وأمنية في المقام الأول لكي لا يعود حلف وارسو الذي انتهى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وكسر جدار برلين وانضمام معظم دولها إلى حلف الناتو بقيادة أمريكا.