د. عبدالله بن محمد أباحسين
تساءلت كثيراً عن فائدة قراءة أخبار الماضين وحوادث الزمان، ولماذا يقتطع المفسّر أو المحدّث أو الفقيه شيئاً من وقته الثمين ليكتب في التاريخ: ابن جرير الطبري (ت:310هـ)، وابن الجوزي الحنبلي (597هـ)، وابن الأثير الشيباني (630هـ)، والذهبي (ت:748هـ)، وابن كثير الشافعي (ت: 774هـ)، وغيرهم (1)، فوجدت بعضهم يذكر فوائد التأريخ في مقدّمة كتابه، وأكثر ما لفت انتباهي منها: الاعتبار بحوادث الزمان(2)، حتى إنّ الحافظ الذّهبي (ت:748هـ) جعل عنوان أحد مؤلفاته في أخبار الماضين دالاً على هدفه، وسمّاه: (العِبر في خبر من غبر)، ومثله المقريزي (ت: 845هـ)، سمّى كتابه: (المواعظ والاعتبار)، أرّخ فيه لمواضع مصر وبلدانها وما يتّصل بها من حوادث وأعلام.
وإذا تدبّرنا القرآن العظيم؛ وجدنا فيه أخبار الماضين، قصّها الله تعالى، وأرشدنا إلى الاعتبار بها، قال جلّ وعلا: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ، وقصّ علينا خبر قوم نكثوا العهد، وتحصّنوا، وظنّوا المنَعَةَ، وأصروا على نقض العهد، وكان عاقبة أمرهم كما ذكر الله عنهم: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم ، وأمرنا سبحانه بعد الخبر بأمر، فقال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) سورة الحشر {فاعتبروا يا أولي الأبصار}.
والاعتبار بحوادث الزمان وتاريخ الأمم والبلدان يحصل بعملية ذهنية، ولهذا قال سبحانه: {يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}، وقال:{لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}، ويتحقّق بالقياس، بمعنى أنّنا إذا قرأنا أخبار الماضين؛ قاست أذهاننا حالهم بحالنا، وما نزعهم من النوازع، وانبعث في دواخلهم من المرادات بما يعتلج في صدورنا في حال جرى علينا حوادث تُشبه ما جرى عليهم، ولا بُدّ أن نوقن في قياسنا بأنّ نفوسهم تُشبه نفوسنا، وأنّ النوازع التي جعلتهم يفعلون أفعالاً دوّنها المؤرّخون؛ موجودة في نفوسنا، وهذا هو محرّك العبرة والعظة في دواخلنا ونحن نُطالع ما جرى عليهم بعد استجابتهم لنوازع نفوسهم، وهو وجهٌ من وجوه الاعتبار، وأوجه الاعتبار كثيرة متنوّعة.
إذا قرأنا أخبار الصابرين، والمثابرين، والأوفياء، والصادقين، وعرفنا نتائج صبرهم ومثابرتهم ووفائهم وصدقهم؛ اعتبرنا وتأسّينا، وإذا قرأنا أضداد ذلك؛ اعتبرنا وانزجرنا، وإذا لم نوقن بتشابه نفوس السابقين واللاحقين؛ لم ننبعث للاعتبار.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (الله سبحانه لم يقص علينا قصة إلا لنعتبر، وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا، ولولا أن في النفوس ما في نفوس المكذّبين للرسل؛ لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نُشبهه قطّ)(3)، وسبق ابن عبد الوهاب إلى هذا المعنى غيره من علماء الإسلام(4)، وهذا يعني أنّ التشبيه بين الأحوال والحوادث يقوّي الاعتبار، وأن الاعتبار مقتضى العلم بأخبار الماضين، ولقد وجدت شيخ الإسلام ابن تيمية يؤرّخ لحادثة قدوم التتر على الشام، ويبعث القياس في ذهن القارئ، وينقله إليه، ويستدعي لذلك أشباه الحوادث، والـمَثُلات، وكان في دمشق لما امتُحنت بحصار التتار، فذكر الشدّة العظيمة التي نزلت بهم وبأهل الشام، وفصّل في الحادثة، وشبّه حال الدمشقيين فيها بحال أهل المدينة لما أحاط بها الأحزاب، وفيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والصحابة رضي الله عنهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وبلغت القلوب الحناجر، وانقسم النّاس في مواجهة حصار الأحزاب وكيدهم ومكرهم، وذكر ابن تيمية أوجه الشّبه بين الدمشقيين في زمنه وأهل المدينة في وقعة الأحزاب، وكرّر توجيه القارئ ليعتبر(5)، ونهج الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ذات المنهج لما كتب رسالة لطيفة بعنوان (المقامات)، أرّخ فيها لما جرى على الدرعية والإمام محمد بن سعود بعد أن حمى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وذادَ عن دعوة التوحيد، واستدعى ابن حسن أشباهاً من الحوادث، وحرّك ذهن القارئ ليعتبر، وكرّر توجيهه ليتّعظ(6)، وأحسب أنّ الاعتبار بتاريخ الإمام محمد بن سعود والدرعية لا يتحقّق أكثره إذا كنّا في شكّ وريبٍ من أساسٍ انبعثت الدرعيةُ والإمامُ لحمايته، والذّودِ عنه، والتمسّك به، فإنّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان قبلَ الدرعية داعيةً لنبذ إلفٍ مخالفٍ لأصل الدين، وبدأ أوّلاً بحثّ علماء وقته للتخلّص من ربقة التقليد، ومتابعة إجماعات العلماء والاتفاق المحكيّ عنهم في كتبٍ كانت بين أيديهم، واستنهض ذوي الرأي في محيطه ليُصحّح وفق ما في كتب علماء الإسلام الأوائل، لكنّه -كما أشباهه الماضين- وافقه قلةٌ، وخالفه الأكثر، وبقي في العيينة حيناً، وتأثّر بدعوته الإمام محمد بن سعود، وبادر بقلع مظاهر مخالفة لأصل الدين في بلده في الوقت الذي كان ابن عبد الوهاب في العيينة ولم ينتقل بعدُ إلى الدرعية(7)، ثمّ إنّ بعض العلماء المعارضين لابن عبد الوهاب وتصحيحه؛ حرّضوا عليه أمراء ورؤساء، فطُرد منبلدة العيينة، واحتضنته الدرعية، وحماه الإمام محمد بن سعود، ثم حوربت الدرعية لأجل هذه القضيّة، وصبر الإمام محمد بن سعود، وابتُلي، وعُذل، وليم، وثُبّط، فلم يلتفت إلى عذلٍ، ولا لومٍ، ونهض بالأمر، وثبت عليه، وقدّم هو وأبناؤه وأهل الدرعية نماذجَ من الثبات والصبر والشجاعة والإقدام واستوعبت الدرعيةُ وأهلُها والإمامُ ابنُ سعود القادمَ المختارَ لسكناها والإقامة فيها، وأعقبهم الله عاقبةً حميدة، وفيما جرى عليهم عبرةٌ وعظة.
وأحسب -أيضاً- أنّ من شكّ في القدر الذي ذكرته من تاريخ الدرعية والإمام محمد بن سعود، أو كذّبه؛ فقد رضي بتيه عقله أثناء قراءة مُعظم حوادثها، وحُرم أسمى وأجلّ أهداف تأريخ الدرعية، كما أنّ التشكيك فيه أو تكذيبه بلا دليل ولا برهان؛ نزعٌ لأعظم فضيلة حازها الإمام محمد بن سعود، فإنّ نواة دولتنا السعودية انكشفت بفضله بعد الله على ذاتها، وأدركت خطأ ما كانت عليه من إلفٍ وعادةٍ، ولم يتسرّع الإمام محمد بن سعود بعد سماع داعي التصحيح، بل تثبّت، وجدّ واجتهد في تمييز العلم المأثور المتّصل بالقرآن والسنّة على فهم السلف الصالح، وأقام لذلك غِربَالاً، لم ينفُذ من خروقه إلا علمٌ متّصلٌ، وعالمٌ مُتّصلٌ، وعزلَ الإمامُ وصفّى، وتحقّق، وتيقّن، ثم انتفض، وهرع، وبادر، وصبر.
الشيخ عثمان بن بشر كتب تاريخه (عنوان المجد)، ودوّن أخبار الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابتداء أمره وحماية الإمام محمد بن سعود، وفضيلة الدرعية ومجدها العظيم، واهتمّ بمسألة الاعتبار، قال في مقدّمة الجزء الثاني: (اعلم أن التاريخ علم شريف، فيه موعظة واعتبار، ومعرفة أحوال الماضين مما يوقظ الأذهان، ويقيس العاقل نفسه على من مضى من أمثاله)، ويلحظ قارئ تاريخه أنّه ذكر حوادث سمّاها سوابق، لا تعلّق لها بتاريخ الدولة السعودية والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكانت طريقته أوّل شروعه في التأليف أنّه يفصل بسوابقه حوادثَ عناها بالتأريخ، فيفصل -مثلاً- بين حوادث جرت زمن الإمام محمد بن سعود بذكر سابقة، وغرضه الأكبر: الاعتبار، وطُبعت مفردة في آخر عنوان المجد، وبقيت النّسخة الخطّية؛ شاهدة على صنيعه، وطالعتُها، ووجدت أنّ من أجمل عِبرِه في تأريخ أمّتنا السعودية العربيّة: أنّه ذكر خبر بلدة صغيرة في إقليم من أقاليم نجد، تناحر أهلها سنة 1120هـ، واقتتلوا، حالهم كحال عامّة البلدان النّجدية، وقُسّمت بلدتهم الصغيرة إلى أربعة محالّ، وترأّس على كلّ محلّة أميرٌ، وسُمّيت المربوعة، وبقيت كذلك سنةً كاملة، وفصَلَ ابن بشر بالحادثة بين حوادث سنة 1226هـ وما بعدها، وسببه أنّه تجلّى في حوادث سنة 1226هـ مظهر اجتماع أهل أقاليم نجد ومفاوزها الشاسعة من حاضرة وبادية تحت قيادة الإمام سعود بن عبد العزيز، وتغلَّبَ الجمعُ على من حاربه في تلك السنة، وفيها كسا الإمام سعود الكعبة، وقفل من مكة بجيشه إلى نجد، فجالت في خاطر ابن بشر الفكرة وهو يتذكر ما كانت عليه الجماعة قبلُ من اقتتال وتناحر، وحضرت العبرة، وناسب أن يذكر الضدّ، وبضدّها تتبيّن الأشياءُ، قال بعد ذكر السابقة: (إنما ذكرت هذه الحكاية ليعرف من وقف عليها وعلى غيرها من السوابق نعمة الإسلام والجماعة والسمع والطاعة، ولا تُعرف الأشياء إلا بأضدادها) (8).
إنّ التاريخَ (تجاربُ الأمم)، وإنّ تمرين العقل بقراءة التجارب يقوده للكمال قياداً حسناً، ولأجل ذا وذاك؛ فضّل العقلاء مطالعة أخبار الأمم والدول والملوك والوزراء والعلماء، وكان بعض الأئمة ربما أمر بقراءة كتب التاريخ في مجلسه، مثل الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، وقبله جدّه الإمام فيصل بن تركي، وبعض ملوك الإسلام، ومن العبارات التي أيقظت ذهني في مطالعة كتب التاريخ وتاريخ نواة دولتنا السعودية: قول الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ وزير التعليم العالي الأسبق ورئيس مجلس دارة الملك عبد العزيز: (لقاؤك مع التاريخ ليس لغرض إرجاعه، أو تغييره، وإنما لتبني واقعك على ما طوى من الأحداث، تلتقي بالأمجاد والمفاخر وجلائل الأعمال فتشدّ نفسك إلى أجوائها لتجعل منها حلقة راسخة في القافلة المنطلقة الهادفة، وتلتقي النظرات بالسّيء من الأحداث والمؤلم من الوقائع فتستيقظ الأفئدة، وتكبح الجماح عن سبيلها، تلك هي فائدة التاريخ) (9).
مراجع الحواشي:
(1) ألّف ابن جرير كتابه تاريخ الرسل والملوك في أحد عشر مجلداً بحسب إحدى الطبعات، وألف ابن الجوزي (المنتظم) في ستة عشر مجلداً، وألّف ابن الأثير (الكامل) في تسع مجلدات، وألّف ابن كثير البداية والنهاية في اثني عشر مجلداً، وألّف الذهبي تاريخ الإسلام ووفيات مشاهير الأعلام في أكثر من خمسين مجلداً.
(2) يُنظر: ابن الجوزي (المنتظم في تاريخ الأمم والملوك) (1/117)، وابن الأثير (الكامل في التاريخ)، ص 9.
(3) (مفيد المستفيد)، قسم العقيدة من مؤلفاته، ص284، و(الدرر السنية) (13/137).
(4) يُنظر شيخ الإسلام ابن تيمية: (مجموع الفتاوى) (28/227، 425).
(5) (مجموع الفتاوى) (28/424-467)، و (العقود الدرية)، ت: محمد حامد الفقي ص136-191. وذُكر للرسالة عنوانٌ في نُسخة خطّية نجدية لها، يبدو للقارئ أنه: (التترية)، بخط الشيخ سعد بن عنبر، من أهل بلدة منفوحة، نسخ في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، (مكتبة الرياض السعودية) (676/86)، ص79، ولم أقف على تسمية للرسالة فيما جُمع من مؤلفات ابن تيمية، ووجدت الشيخ عبد الرحمن بن حسن نقل منها، وسمّاها: (رسالة وقعة التتار) (الدرر السنية) (8/174)، وكتب الربيعي عنواناً لها في هامش العقود الدرية بخطّه، وهو: (كتاب الشيخ في التتار) مكتبة الملك سلمان، برقم (1639)، ص85.
(6) (الدرر السنية) (12/5-41)، وطبعتها دارة الملك عبد العزيز مفردة، بتحقيق د. عبد الله المطوع.
(7) ذكره ابن غنام (روضة الأفكار) (1/30-31)، وعبد الله بن خميس (الدرعية العاصمة الأولى)، ص106، وبحسب رسالتين كتبهما ابن عبد الوهاب قبل طرده من العيينة فإن بعض علماء الدرعية لم يكن يُنكر المظاهر المخالفة لأصل الدين كما ابن عبد الوهاب، وفيه دلالة على تمييز ابن سعود، وعدم متابعته لبعض علماء بلده، وتميّزه بذلك عن غيره. تُنظر دراسة لكاتبه منشورة في كتاب (الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى دراسات تاريخية)، نشرته دارة الملك عبد العزيز بمناسبة التأسيس، وعنوان دراستي: (ولادة الإمام محمد بن سعود وصفحات لم تُكتب في تاريخه)، ص66-77. وتُنظر الرسالتان في ابن غنام (روضة الأفكار) (1/157-158، 175).
(8) نُسخة محفوظة في المتحف البريطاني بلندن، تحت رقم 771-5، وهي التي اعتمد عليها الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ في تحقيق (عنوان المجد)، لكنّه أفرد السوابق لئلا تُشتّت القارئ، وجعلها في خاتمة الطبعة، ووجدت ابن بشر استحسن إفراد السوابق في نُسخة خطّيّة متأخّرة، وجعلها في مقدّمة تاريخه، ويُنظر في ذلك: دراسة منهج ابن بشر أعدّها د. عبد العزيز الخويطر، ط(1)، سنة 1390هـ، ص43-44، ومقدمة مخطوط (عنوان المجد)، نشرته مكتبة الملك عبد العزيز.
(9) مقدمة طبعة دارة الملك عبد العزيز لعنوان المجد تحقيق الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، ص7.