وَقَد كانَ حُبّيكُم طَريفاً وَتالِداً
وَما الحُبُّ إِلّا طارِفٌ وَتَليدُ
«جميل بثينة»
إن كلمة «أتلاد» التي مفردها «تليد» تحمل معنىً دلاليًا عميقًا في اللغة العربية، ويرتبط هذا المعنى ارتباطًا وثيقًا بالأعمال المعروضة والتراث، ومعنى كلمة «أتلاد»: هي جمع كلمة «تليد»، وتشير إلى كل ما هو قديم وموروث عن الأجداد، سواء كان ذلك من الممتلكات أو العادات والتقاليد أو المعارف والخبرات.
وأيضاً تعني الشيء القديم الأصيل، الذي ورثته الأجيال عن الأجيال السابقة، وهو عكس الجديد والمستحدث.
ومما لاشك فيه أن هناك علاقة وثيقة بين معنى كلمة «أتلاد» والأعمال التي عرضها القثامي في معرضه الشخصي الثاني في قاعة إرم آرت للفنون في 1/ يناير/ 2025 فكلمة «أتلاد» تحمل في طياتها فكرة الاستمرارية والتواصل بين الأجيال، حيث يتم نقل المعرفة والتجارب والأعمال من جيل إلى جيل آخر، وهذا ما حرص «القثامي» على تقديمه في معرض أتلاد حيث حكا عن قصة اكتشاف هذا الخط العربي النادر الغير معروف في مصحف قديم يعود للسنة السابعة والثامنة الهجرية وقد كشف عنه من قبل الخبراء ليؤكدوا صحة انتماء الخط للجزيرة العربية في تلك الحقبة من الزمن ومن خلال قراءات القثامي واعجابه بهذا الخط سيطرت عليه فكرة إظهاره بجماليات التشكيل ليقدم أعمال أقرب ما تكون مخطوطات أثرية لهذا الخط الذي كتبه بيده على الأعمال مستعينا بما يملك من تقنيات متفوقة في الملامس واللون.
ويمكن استخدام كلمة أتلاد في عدة سياقات ومفاهيم مثل الثقافة والمعرفة والعمارة، ولكن استخدامها في الفن التشكيلي تعني الإلهام من التراث؛ فيستلهم الفنان من التراث الثقافي والفنون التقليدية في أعماله مستخدمًا عناصر من الماضي في خلق أعمال حديثة.
وكلمة «أتلاد» تحمل في طياتها عمقًا تاريخيًا وثقافيًا، فهي تعكس أهمية الحفاظ على التراث ونقله للأجيال القادمة.
عندما نستخدم هذه الكلمة في سياق الفن، فإننا نشير إلى الصلة الوثيقة بين الإبداع المعاصر والتراث الثقافي.
تحليل مجموعة أعمال كنماذج لما طرحه القثامي في «أتلاد»، وعلى ضوء سياق المعرض من خلال الصور المختارة، لبعض الأعمال:
(أتلاد) هي مجموعة أعمال فنية عبارة عن تصوير تشكيلي لوحة قماشية بمقاسات مختلفة كبيرة ومتوسطة وألوان اكريلك وبعض الوسائط (mixed media).
تنتمي الأعمال للمدرسة التجريدية التعبيرية (Expressionism abstract) وتظهر على سطح كل الأعمال مساحات من الخط العربي وتعتمد اللوحة بشكل أساسي على الخط العربي، ولكن بطريقة تجريدية. الحروف والكلمات تبدو وكأنها تتلاشى وتظهر تقترب مرة وتبعد أخرى وتتحول إلى أشكال تسبح على فضاء اللوحة.
(colors): الألوان المستخدمة في كل لوحة هي درجات من الألوان المتناغمة بين اللون الأخضر، والبني، والأزرق، والبنفسجي، وتدرجاتها مما يوحي بالطبيعة والهدوء والاسترخاء، وقد مزج الفنان بين الأكريلك والمعاجين ووسائط أخرى ليبرز جمال الخط.
(Structure - construction) بنية العمل الواحد وإنشائه الشكلي واللوني مكتمل ومتماسك ومتزن يظهر مدى خبرة الفنان وتمكنه من أدواته.
(formation): التكوين العام للوحة يعطي انطباعًا بالحركة والتدفق، وكأن الحروف تتحرك وتتراقص على سطح اللوحة.
الكتلة (formal mass): تتصدر الحروف المشهد على اللوحة وتشكل نقطة الارتكاز والسيادة فهي المقصودة من العمل وليست إضافة تخدم العمل.
إنهاء العمل (finishing): إنهاء الفنان عمله بطريقة طبيعية متمكنة؛ حيث تم توظيف الاختيارات للون والشكل بطريقة متماسكة، ومنسجمة.
تحليل الأسلوب في سياق معرض «أتلاد»:
أجد أنه تمت إعادة صياغة التراث في هذا المعرض وهذا ما يحاول الفنان «القثامي» القيام به من خلال هذه الأعمال إعادة صياغة لجماليات الخط العربي، وهو تراث ثقافي عريق، بطريقة عصرية وتجريبية ويحاول أيضاً إيجاد توازُن بين الأصالة والحداثة.
مما قد لا يعرفه الكثيرون عن استخدام الخط في العمل التشكيلي وما يروج له الكثيرون ممن يتبنون هذه النظرية للأسف يرون هذه الأعمال إنما هي أعمال حرفية ليست من الفن التشكيلي الذي يغوص في الفكر والفلسفة من وجهة نظرهم، ويتبنى مفاهيم قد لا تمت للفنان بصلة، وهذا قصور في فهم عناصر العمل التشكيلي، فالفنان الحقيقي هو ابن بيئته يعبر عنها ويتفاعل معها من خلال مشاعره الخاصة وتوجهاته، ويضيف لعمله الفني العناصر التي تخدم هذا التعبير من خلال الرموز التي يستعين بها في عمله التشكيلي، والخط هو أحد هذه الرموز التعبيرية ويعامل معاملة الخطوط في العمل التشكيلي التجريدي والتعبيري، وإذا نظرنا من حولنا فثقافتنا العربية والإسلامية تغص بالمفاهيم والرموز، والعناصر التي لايزال أبناؤها مقصرين في توظيفها أو التعبير عن أنفسهم من خلالها، وفي أول هذه الرموز والعناصر الحروف العربية التي في تحليلها هي خطوط منحنية تستخدم للتعبير عن مشاعر وأفكار مجردة تحمل دلالات دينية وفلسفية، أو حتى نفسية وشخصية مع إظهار الجمال الفني الذي يتفاعل معه المتلقي ويجد فيه ما يعبر عنه أيضاً من خلال تكاملها مع باقي عناصر العمل الفني.
ونجد «القثامي» يدعو المتلقي إلى التفاعل مع اللوحة وترجمة الأشكال والألوان فيها إلى معانٍ شخصية ونفسية تخصه، بعيداً عما قصد الفنان، وهنا يحدث التأثير الذي هو العنصر الأهم من عناصر العمل الفني.
الخلاصة:
معرض «أتلاد» هو أعمال فنية تجسد محاولة الفنان «سامي القثامي» لإعادة صياغة التراث الثقافي بطريقة عصرية من خلال استخدام الخط العربي التجريدي والألوان الهادئة، وقد نجح الفنان في خلق عمل فني يجذب الانتباه ويحفز التفكير من مطلع المعرض واختيار اسمه الأصيل والعميق، واختيار الخط العربي المهجور، أو المكتشف حديثاً كعنصر يعبر عن الأصالة والعمق الثقافي والإرث التليد للغة العربية مع جودة الإخراج من خلال تقنيات الرسم والتشكيل زاد من جمال الأعمال وقوتها المساحات المدروسة في كل لوحة، وتفاوت الأحجام بين المتوسطة والكبيرة والتمكن من الألوان ودرجاتها.
** **
بقلم التشكيلية/ رفيعة البيشي
dreamy2008@hotmail.com