عايض بن خالد المطيري
قال سقراط يومًا لتلميذه الصامت: «تكلّم حتى أراك»، في إشارة ذكية إلى أن الإنسان لا يُرى على حقيقته إلا من خلال منطقه، وعقله، وما يقوله من فكرٍ وحكمة. أما اليوم، فقد تحوّلت الحكمة إلى: «صوّر حتى نراك»، بل بشكل أدق «ادفع حتى يُقال عنك ما تريد»، أما ما أنت عليه فعلًا، فلا أحد يسأل.
لقد دخلنا زمنًا تعاظمت فيه ثقافة «الترند»، وتضخّمت فيه الهالة الزائفة، حتى بات بإمكان أي شخص - نعم، أي شخص - أن يصبح «شيخ الشيوخ»، أو «رجل الأقوال والأفعال والأعمال»، أو حتى «الرمز الوجيه الذي لا يُشبهه رمز» مقابل تحويل بنكي يبدأ من ألف ريال، وينتهي حيث تبدأ المبالغة.
كل ما تحتاج إليه: صانع محتوى «اخصائي هياط» متخصص في توزيع الألقاب، يُنتج لك مقطعًا مُغلفًا بالموسيقى الحماسية، يتحدث عن بطولاتك وتواضعك، يخلق لك أفعالًا من العدم. الواقع المؤسف، بقدر ما هو ساخر: لم نعد نقيّم الناس بإنجازاتهم، بل بعدد مانرى من المقاطع التي تتحدث عنهم، ولم نعد ننتظر من الكلمة أن تكشف جوهر الإنسان، بل من عدسة هاتف تمنح صاحبها وسام «الهيبة» و»الرمزية»، ولو لدقائق. أصبح بعضهم يشتري صورة اجتماعية لا علاقة لها بحياته، ويعيش داخلها حتى يصدقها هو بنفسه.
والأخطر من ذلك، أن هذا التزييف لم يعد فقط مقبولًا، بل أصبح مطلوبًا لدى كثير من المجتمع وبقوة، ومن لا يفعل ذلك، يُنظر إليه «على أنه متخلف»، أو «ما عنده علاقات»، أو «غير معروف». لم تعد المسألة أن تكون مؤثرًا، بل أن تبدو كذلك، ولم يعد التركيز على المضمون، بل على الإخراج؛ من يمدحك أكثر، ويكذب أكثر، يعرضك أكثر، ولو على حساب الحقيقة.
ومن وجوه هذه الظاهرة، أنها صنعت فئة تستثمر في «الصورة»، لا في القيمة، يدفعون ليُمدحوا، ويُلقّبوا، ويُرفعوا، ولو كانت حقيقتهم خالية من كل ما يُقال عنهم، والمجتمع للأسف بدأ يكافئ اللمعان أكثر من المضمون، والتصفيق أكثر من الصدق.
أيها المجتمع الواعي، لا بد أن نُعيد تعريف «الرؤية الحقيقية» للإنسان أن نربّي أبناءنا على ألا يقيسوا أنفسهم بما يُقال عنهم، بل بما يصنعونه فعلاً أن نحتفي بمن يعمل بصمت، ويترك أثرًا بلا عدسات، ونشكّ في كل من تُسلّط عليه الأضواء أكثر مما ينبغي.
فالأبطال الحقيقيون لا يشترون ألقابهم، ولا يدفعون لمن يصنع لهم هالة، بل يبنونها بأفعالهم، وأخلاقهم، وصبرهم الطويل على طريق الإنجاز. أما من يشتري الألقاب، ويمنح نفسه صورة ليست له، فليتذكّر أن التاريخ لا يحفظ إلا من تكلّم فعلًا حتى رأيناه، لا من صوّر حتى شاهدناه، ثم اختفى خلف صدى صوتٍ مدفوع الثمن.
الرسالة الأهم: ابحثوا عن منطقكم، وعقولكم، وقلوبكم، فكما قال سقراط: «تكلّم حتى أراك»... لا «ادفع نراك».