د. محمد بن خالد الفاضل
الدكتور جعفر شيخ إدريس عالم ومفكر إسلامي جليل، يشدّك فيه سمت العلماء ووقارهم، وما أسبغ الله عليه من التواضع وعفة اللسان والزهد، عرفته في الرياض بالسماع أكثر من المقابلة، ثم صحبته عن قرب في أمريكا بضعة أعوام (1407هـ -1411هـ) من خلال المشاركة معًا في بعض الدورات الشرعية التي نظّمتها جامعة الإمام بالتعاون مع قسم الشؤون الإسلامية في سفارتنا بواشنطن، ثم أستاذًا معنا في معهد العلوم الإسلامية والعربية في واشنطن التابع للجامعة عندما كنت مديرًا له.
وكانت تجمعنا مع الشيخ جلسات علمية ومناقشات فكرية أغلبها في قسم الشؤون الإسلامية -قبل افتتاح المعهد- بحضور رئيسه الأمير محمد بن فيصل بن تركي، الذي كان محباً للشيخ جعفر ومعجبًا به ومقربًا له، وكان كثير الاستعانة به في ترجمة أو فحص أو تقويم بعض الرسائل والكتيبات الصغيرة التي كان يوزعها قسم الشؤون الإسلامية باللغة الإنجليزية.
ولعلي أُقرّب حديثي للقارئ عن الشيخ بنظمه في فقرات حتى لا يبدو كالكتلة الصماء التي تضيع المعلومة داخلها:
1- يسّر الله للشيخ جعفر الابتعاث إلى الغرب مبكراً، فأتقن اللغة الإنجليزية وهضم الفكر الغربي ومناهجه وطرائقه، فنفع الله به في الكتابة للغربيين والانفتاح على فكرهم ومناقشتهم بأدواتهم.
2- عايش الشيخ الحركة الإسلامية في السودان بمدارسها ومناهجها، وقد كان - مع سلفيته المبكرة - من أبرز مفكريها، ولعل هذه المرحلة قد ساعدته في بلورة مسلكه الأخير.
3- أتاح له عمله في بعض جامعات المملكة بالرياض الانفتاح بصورة أكبر على الدعوة السلفية، ولأنه كان حراً لم تستعبده الحزبية فقد استفاد وتأثر، وأكثر ما أثّر فيه وحظي بإعجابه دروس سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- بعد الفجر في المسجد، فقد واظب الدكتور عليها منذ أن علم بها، ولم يفته منها درس وهو في الرياض، بل إنه قال لي: لقد ندمت على سنين كنت فيها أستاذاً في جامعة الملك سعود ولم أعلم بدروس الشيخ ابن باز مع قربي منه.
4- زادت هذه المرحلة من تعلق الدكتور جعفر بشيخ الإسلام ابن تيمية - مع أنه ليس بجديد عليه- فتتلمذ على كتبه، وأكبّ عليها قراءةً واستظهارًا، ولعل ملازمته لدروس الشيخ ابن باز زادته إغراءً بكتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، وقد ظهر أثرهما واضحاً في أغلب ما كتبه الدكتور جعفر عُمقًا وتأصيلاً ومنطقًا وحِجاجًا عقليًا.
5- من مفاتيح شخصية الدكتور جعفر التواضع والسماحة واللطف وقلة الكلام وعدم التدخل فيما لا يعنيه، ولهذا كثر محبوه وقلّ شانئوه، بل إني لا أعرف له مبغضاً، وما سمعته يوماً متكلماً في أحد إلا بخير، وما سمعت أحداً يتكلم عنه بسوء.
6- للدكتور مكانة عظيمة في نفوس الأمريكان ذوي الأصول الأفريقية، ويرونه قدوة ونبراسًا يتأثرون به ويقرؤون له ويصدرون عن رأيه، ويتسابقون إلى دعوته لأنشطتهم ومساجدهم، ويشعرون بأنه قريب منهم ومحبٌ لهم ومخلص صادق في نصحهم.
7- للدكتور -رحمه الله- جَلَد عجيب -حتى بعد ما كبر سنه- على السفر وحضور المؤتمرات والأنشطة والمشاركة الفعالة فيها، ويُظهر من السماحة والليونة والمطاوعة ما يُغري الناس بطلبه وتكليفه، والغريب - وهذه خصلة يكاد ينفرد بها - أن الدنيا لا تحركه ولا تغريه رغم حاجته، فلا أعرف أنه سأل عمّا له في أي عمل أو فاوض أو ناقش، لا قبل العمل ولا بعده، ولم أرَ ولم أسمع أنه تقدم بطلب شفهي أو مكتوب لفرد أو مؤسسة يطلب فيه شيئاً لنفسه.
8- فُتِن المسلمون في العالم عموماً وفي أمريكا بوجه أخص عندما غزا صدام الكويت وجاءت القوات الأجنبية إلى الخليج، واشتهرت فتوى سماحة الشيخ ابن باز في جواز ذلك، وتكلم السفهاء في ابن باز وطعنوا في دينه وذمته وعدالته، وحصل شيء من ذلك في أحد مؤتمرات الشباب الكبيرة الحاشدة في أمريكا التي حضرناها، وكان الدكتور جعفر حاضرًا ومشاركًا، فانبرى للدفاع عن الشيخ بأكثر مما يدافع به أهله وأقاربه ومحبوه من السعوديين، وطعن الجمهور في ابن باز بأنه عالم كفيف بعيد عن الواقع وجاهل به، فقال الدكتور جعفر أنا أتحدى الحاضرين إن كان فيهم من يعرف من أحوال المسلمين وشؤونهم ربع ما يعرفه الشيخ ابن باز، فابن باز لا يأكل طعامه إلا وعلى مائدته عدد من أبناء المسلمين من مختلف القارات وهذا يحصل بشكل يومي في الرياض ومكة والطائف، فضجت القاعة بمقاطعة الدكتور واتهامه بأنه من علماء السلاطين، فرد عليهم بأنه ليس عالم سلطان ولا يريد أن يكون أيضًا عالم عامة، تسيره العامة والغوغاء حسب أهوائهم.
وإنما عالم ملة يسيره الشرع والدليل، وقد كان موقفًا صعبًا مشهودًا عَرّض الدكتور فيه سمعته ومكانته في أوساط هذا الشباب الغاضب المنفلت للاهتزاز، لكنه كان مؤمناً مقتنعاً بما يقول، ولم يكن ممن يخطب ود الجماهير.
9- من الأمور التي مَنّ الله بها على الدكتور جعفر فيما بينه وبين ربه أنه عابد مخبت قوّام صوّام -نسأل الله لنا وله القبول والمغفرة- وقد اطلعتُ على شيء من هذا السر عندما صحبته في رحلة إلى ولاية (مينيسوتا) في الشتاء وهي من الولايات الشمالية الباردة، ولم نكن مستعدين بمزيد من اللباس؛ لأن المدة قصيرة لا تزيد على يوم وليلة، وكنا نظن أن مكان الندوة التي سنشارك فيها أحد الفنادق الفخمة المعتادة ذات النجوم الكثيرة، وفوجئنا عندما وصلنا المطار بأن أخذونا إلى مخيم كشفي (كامب) لا يطيق الإقامة والنوم فيه إلا كشافة شباب أشداء، وأسكنونا في غرفة واحدة صغيرة من الغرف الجاهزة المتحركة وأرضيتها غير مفروشة، وفيها سريران من أسرة الكشافة الصغيرة الخفيفة المحمل، ودورة المياه خارجها والجو بارد قرّ، والريح ريح صرّ، فصار النوم شبه مستحيل في بدلة وكرفتة وحذاء، والشاهد أني كلما غفوت غفوة وصحوت وجدت الشيخ قائماً يصلي منهمكًا في قراءة ودعاء وخشوع، ولعله وجد في حلاوة وحرارة المناجاة ما يدفئه ويخرجه من صقيع هذه الغرفة.
أكتب هذا الكلام وأشيع هذا السر مع أني لم أستأذن الشيخ -رحمه الله- في نشره، لكني قصدت أن يدعو له محبوه بالقبول والمغفرة، وأن يكون شهادة حق له انطلاقاً من القصة التي وردت في الحديث النبوي وختمها الرسول صلى الله عليه وسلم مؤيداً بقوله: «أنتم شهود الله في أرضه».
وبعد: فلعلي أختم بهذا الموقف، وأعتذر من أن المقال قد يبدو متناثراً متنافراً، وقد يشفع لي أني أكتب من الذاكرة عن مواقف مرّ على أقربها أكثر من ثلث قرن.
وقد كانت هذه المدة القصيرة التي جمعتنا في أمريكا عن قرب وحميمية مع شيخنا الدكتور جعفر وأحبابنا: (الدكتور صالح العايد، والدكتور عبدالعزيز العمري، والشيخ صالح الجربوع، والدكتور خليل الخليل، والدكتور ماجد الغشيان وغيرهم)، ولا أنسى الأمير محمد بن فيصل بن تركي - الذي تكرم واستقبلنا في المطار واحتفى بنا ويسّر مهمتنا. كانت أياماً غنية بجلسات علمية وفكرية شبه ليلية اكتسبنا فيها الكثير من شيخنا جعفر، من سمته وعلمه وفكره وطول تأمله.
وقد عدنا من أمريكا، وعاد الشيخ -رحمه الله- فيما بعد، وتيسرت لنا معه لقاءات كثيرة في الرياض وزيارات له في منزله بعد ما أثقله المرض، مع الزميل الدكتور صالح العايد، ومع الزميل الدكتور الجار عبدالله الصبيح -رحمه الله-.
ومن مظاهر وفاء الشيخ ونبله مشاركته -رغم مرضه- في جنازة صديقنا الشيخ زين العابدين الركابي -رحمه الله- في جامع الملك خالد -رحمه الله-، ثم الحضور إلى المقبرة.
رحم الله الشيخ جعفر وجمعنا به ووالدينا وأحبابنا في الفردوس الأعلى من الجنة، وجعل ما أصابه من مرض تكفيرًا له ورفعة في درجاته.