د. الجوهرة بنت فهد الزامل
تعيش المملكة العربية السعودية مرحلة نوعية في بناء قدراتها البشرية، مدفوعة برؤية وطنية طموحة تستهدف تحويل رأس المال البشري إلى ركيزة مركزية للتنمية المستدامة. واستمرارًا لما تم التأكيد عليه في مقالات سابقة حول أهمية توحيد وتكامل الجهود الوطنية لمواجهة تحديات التنمية، يأتي برنامج تنمية القدرات البشرية كأحد البرامج الرئيسة لتحقيق رؤية 2030، مؤكدًا على أن الاستثمار في الإنسان السعودي هو الاستثمار الأجدر بالرعاية والتطوير، وهو خيار استراتيجي وطني بقيادة حكيمة ورؤية ثاقبة.
وفي هذا السياق، يسلط هذا المقال الضوء على أحد أبرز الفجوات التي تتطلب تكاتفًا وتنسيقًا متكاملًا: ردم الفجوة بين التأهيل والتوظيف، ليس فقط كخُطوة إجرائية بل كمسار استراتيجي نحو التمكين الحقيقي للشباب السعودي، وتعزيز مساهمتهم الفاعلة في مسيرة التنمية الوطنية.
ورغم التقدم اللافت في بنية التعليم والتدريب، إلا أن التحديات المرتبطة بمواءمة هذه الجهود مع سوق العمل تتطلب مزيدًا من العمل الدؤوب والتنسيق المستمر، باعتبارها فرصًا للتطوير والابتكار، وليس كعوائق تعيق التقدم. كما أن إعادة تصميم المسارات التدريبية بشكل مرن يضمن تحويل المهارات إلى فرص حقيقية والشهادات إلى وظائف منتجة وهو توجه تقوده المملكة بحزم وثقة في المستقبل.
وقد أظهرت التجارب الدولية أن تكامل الأدوار بين الحكومة، والقطاع الخاص، ومؤسسات التعليم يمكن أن يُنتج برامج تدريبية عالية الكفاءة وذات أثر تنموي ملموس. ففي ألمانيا، يُعد نظام التدريب المزدوج (Dual VET) نموذجًا ناجحًا يجمع بين التعليم النظري والتدريب العملي في بيئة العمل، تحت إشراف مشترك من غرف التجارة والصناعة ووزارات التعليم والعمل. وتشير بيانات 2023 من منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) إلى أن 74 في المائة من المتدربين في هذا النظام ينتقلون مباشرة إلى وظائف دائمة، مما أسهم في خفض معدل بطالة الشباب إلى نحو 5.7 في المائة. وفي سنغافورة، أظهرت دراسة حديثة لوزارة التجارة والصناعة (2024) حول برنامج SkillsFuture، وبالأخص Work-Study، أن المشاركين حققوا زيادات في الأجور تتراوح بين 9 في المائة و11 في المائة خلال أول عامين بعد التخرج، وبلغ معدل التوظيف بعد ستة أشهر من التدريب نحو 60 في المائة، مما يؤكد أثر هذه البرامج في تعزيز المسارات المهنية.
ورغم القيمة الكبيرة التي تحملها النماذج الدولية، إلا أن تطبيقها في السياق السعودي يتطلب تكييفًا دقيقًا يراعي الفروقات المؤسسية والتنظيمية، وخصائص سوق العمل المحلي، بما في ذلك محدودية الفرص التدريبية التطبيقية في بعض المنشآت وتفاوت جاهزية القطاعات. وقد أشار تقرير صندوق تنمية الموارد البشرية (هدف) إلى أن بعض منشآت القطاع الخاص، خصوصًا الصغيرة والمتوسطة، لا تزال تواجه تحديات في استيعاب المتدربين، فيما أظهرت تقارير وزارة الموارد البشرية نتائج متفاوتة لبرامج مثل «تمهير»، حيث أبدت القطاعات التقنية والصحية قدرة أعلى على استقبال المتدربين مقارنة بقطاعات تقليدية. ومن هذا المنطلق، يُقترح البدء بمشروعات تجريبية في قطاعات مرنة كالتقنية والرعاية الصحية والخدمات اللوجستية، ضمن نهج «sandboxing» المعتمد وبدعم من السياسات الوطنية التقنية والتنظيمية.
على المستوى المحلي، خطت المملكة خطوات متقدمة في تطوير برامج التدريب والتعليم، بدءًا من بناء الإطار الوطني للمؤهلات، ومرورًا بإدراج المهارات الرقمية والأساسية ضمن المناهج التعليمية، ووصولًا إلى توسيع الشراكة مع القطاع الخاص في تصميم المحتوى التدريبي.
ورغم ما تحقق من تقدم في هذا المجال، فإن المرحلة القادمة تتطلب تفعيلًا أوسع لدور القطاع الخاص في المواءمة الوظيفية وتوفير الفرص الفعلية، بما يعزز أثر البرامج التدريبية على سوق العمل.
ويجسد هذا التوجه التزام القيادة الرشيدة بتعزيز قدرات الإنسان السعودي، وبناء منظومة وطنية متكاملة تدعم التمكين والتوظيف. وفي هذا السياق، يُعد برنامج تنمية القدرات البشرية (HCDP) نموذجًا وطنيًا رائدًا لمعالجة الفجوات، من خلال تبنّيه لمسارات نوعية تشمل: رفع جاهزية الخريجين لسوق العمل، وتعزيز فرص التعلم التطبيقي، وتطوير نظام وطني لقياس الكفاءة والأثر، ودعم التكامل بين التعليم الجامعي والتدريب المهني، بما يسهم في إعداد قوى عاملة مؤهلة تلبي متطلبات الاقتصاد الوطني المتطور.
وفي هذا السياق، يبرز اقتراح إنشاء وحدة وطنية مستقلة تُعنى بتمكين القوى العاملة الشابة، تُكمل دور الجهات القائمة مثل هيئة تقويم التعليم والتدريب، والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، وصندوق تنمية الموارد البشرية، من خلال دمج مهام حوكمة التدريب، والربط الوظيفي، وتحليل البيانات، والإرشاد المهني، وقياس الأثر، وتوجيه الموارد بذكاء. وتُعد هذه الخطوة محورية في توحيد الجهود الوطنية، وتحقيق أقصى استفادة من الإنفاق التنموي، وتحويل البرامج إلى فرص توظيف حقيقية، بما يواكب مستهدفات رؤية 2030
ولضمان تحقيق الأثر الفعلي لهذه المبادرات، فإن الوحدة المقترحة تحتاج إلى آليات تنسيق أوسع وأدوات تنفيذ أدق، تُعنى بتوجيه الموارد وتفعيل الشراكات المؤسسية طويلة الأجل، وتحويل البرامج التدريبية إلى فرص تشغيل حقيقية.
من القضايا التي تتطلب معالجة متوازنة، تراجع فرص توظيف خريجي بعض التخصصات الإنسانية في ظل تسارع التحول الرقمي. إلا أن هذا التحدي لا يعني التقليل من قيمة هذه التخصصات أو الدعوة لتقليصها، بل يبرز الحاجة إلى إعادة تفعيلها ومواءمتها مع متطلبات سوق العمل المتجدد، بما يتماشى مع توجه المملكة نحو التنمية الشاملة والإنسانية، بدعم من القيادة الرشيدة. ويكمن الحل في دمج هذه التخصصات مع المهارات الرقمية والتقنيات الحديثة، وربطها بقطاعات واعدة مثل الثقافة، والابتكار الاجتماعي، والتعليم الرقمي، والرعاية المجتمعية. فعلى سبيل المثال، يمكن لتخصص علم الاجتماع أن يدعم تصميم السياسات المجتمعية وتحليل سلوك المستخدمين في بيئات الاقتصاد الرقمي.
يُعد تخصص الخدمة الاجتماعية أحد المسارات المؤهلة للعب دور استراتيجي في تعزيز جودة الحياة، وتمكين الفئات الأشد احتياجًا، وتصميم تدخلات مجتمعية ذكية تعتمد على البيانات والتحول الرقمي، وذلك في قطاعات متعددة تشمل الصحة، والتعليم، والقطاع غير الربحي. كما أن تطور المدن الذكية يتطلب وجود مختصين قادرين على الربط بين التقنية والرعاية الإنسانية، بما يواكب رؤية المملكة الطموحة في بناء مجتمع حيوي. وتُعزز هذه التوجهات مبادرات وطنية نوعية مثل «تمهير»، و»طاقات»، و»التدريب التعاوني»، والتي تشكل ركائز داعمة لتأهيل الشباب. إلا أن تحقيق أقصى فاعلية لهذه المبادرات يتطلب إطارًا موحدًا ومتكاملًا يُعزز التناغم المؤسسي، ويقيس الأثر الوظيفي بوضوح، ويوجه المتدرب نحو مسار مهني واضح ومستدام.
لم يعد الحديث عن الفجوة بين التدريب والتوظيف مجرد توصيف لتحدٍّ مزمن، بل أصبح مدخلًا استراتيجيًا لصياغة سياسات تمكين شاملة تسهم في بناء مستقبل مهني فعلي ومستدام للشباب السعودي. وتُعد الظروف الحالية فرصة استثنائية لتحول جذري في منظومة التأهيل المهني، بفضل الدعم الحكومي القوي، والنمو المتسارع للقطاعات الجديدة، وتطور الأسواق التي تتطلب مهارات حديثة. وفي هذا السياق، يبرز اقتراح إنشاء وحدة وطنية لتمكين القوى العاملة الشابة، تُعنى بحوكمة التدريب والربط الوظيفي، وتفعيل الإرشاد المهني، وتحليل البيانات، كخطوة محورية لرفع كفاءة البرامج وتحقيق أقصى استفادة من الإنفاق التنموي، وتحويل الطاقات الشبابية إلى قوة إنتاجية حقيقية تسهم في تحقيق مستهدفات رؤية 2030.
وفي صلب هذا التحول الطموح، يبقى الاستثمار في رأس المال البشري السعودي هو الركيزة الأساسية التي تُبنى عليها الريادة الوطنية. غير أن تحقيق هذه الريادة يتطلب منظومة وطنية مرنة وموحدة، تُصمم بعناية وفق احتياجات السوق المحلي، وتُدار بكفاءة عالية، وتُراجع باستمرار، بما يضمن تحويل طاقات الشباب السعودي إلى قوة إنتاجية مستدامة تُسهم في تعزيز النمو الاقتصادي، وتحقيق مستهدفات رؤية 2030، وصناعة وطن طموح واقتصاد مزدهر ومجتمع حيوي.
** **
- متخصصة في السياسات والتخطيط الاجتماعي