د.عبدالله بن موسى الطاير
تستفزني حد الاحتقار الرواية الغربية التي يعيد تدويرها بعض الباحثين الغربيين المعاصرين عندما يتناولون الشؤون الخليجية. الشواهد تؤكد تحول دول الخليج العربية من مجتمعات صحراوية فقيرة إلى قوى اقتصادية وسياسية عالمية في غضون عقود قليلة. إنجازاتها في البنية التحتية، والتعليم، والرعاية الصحية، والدبلوماسية العالمية لا ينكرها رجل الشارع فكيف بباحث يدعي أنه متخصص في شؤون الخليج، ويصر على رؤية حاضر هذه الدول بعدسة الصور النمطية والاستعلاء المتوارث. يسيطر على الدراسات الغربية اجترار وإعادة تدوير مصطلحات مثل: «شكرا للنفط والغاز» على اعتبار أنه السبب الوحيد لما حققته دول الخليج من منجزات تنموية، أو وصفها بأنها «محميات غربية»، أو أنها «أنظمة استبدادية»، أو «أنها هشة» ووجودها معرض للخطر في أي لحظة، وفي المقابل تهمش دور الحوكمة الرشيدة والمتميزة في إدارة الدولة ومواردها الطبيعية. هذا التحيز المتصل والمستمر لا يشوه الواقع فحسب، بل يعمل على تقويض شرعية العقد الاجتماعي في هذه الدول، التي تُوازن بحكمة بين حقوق وواجبات المواطنين لضمان الاستقرار والازدهار.
لماذا يُعيد نفر من الباحثين والصحفيين الغربيين إنتاج سردية وعبارات عفا عليها الزمن، ولا تتناسب مع عصر شاعت فيه المعلومة واتسعت دائرة المعرفة، وتيسر الوصول لها؟ ربما يكون أحد الأسباب هو ركونهم إلى بيئة فكرية مغلقة يتردد فيها صدى الأفكار والآراء المشابهة دون التعرض لتحديات أو وجهات نظر مغايرة، وهي منطقة مريحة لا يجدر بالباحث أن يعزل نفسه فيها دون النظر إلى ما حوله من متغيرات. على سبيل المثال، كنت أتصفح كتاباً حديثاً للتو صدر عن دول الخليج العربية، وأحصيت في الجزء المخصص للببليوجرافيا أكثر من 500 مصدر معظمها غربية معاصرة وقديمة، تخللها نحو ثلاثين مصدراً خليجياً وعربياً وباستدلالات هامشية أو سلبية، هذا النسق البحثي يُكرّس دورة من ضيق الأفق تتكرر مع كل إصدار جديد. الإصرار على مصادر متجذرة في افتراضات الحقبة الاستعمارية أو الجغرافيا السياسية للحرب الباردة، يكرس الصورة النمطية لدول الخليج على أنها كيانات هشة، لا تستطيع البقاء بدون ثروة النفط والحماية الأجنبية. هذه السردية البائسة تتجاهل عن عمد قدرة قادة الخليج ومواطنيه على التعامل مع الأسواق العالمية المركبة والتحديات الإقليمية الجيوسياسية المعقدة، وتقديم نماذج رائدة في تنويع اقتصاداتها، والاستثمار في مجال التكنولوجيا والطاقة المتجددة، وقيادة وساطات ناجحة لنزع فتيل التوترات وإحلال السلم والأمن ليس في المنطقة فحسب وإنما في العالم، وبدلاً من الاعتراف بشرعية المنجز الخليجي باعتباره مكتسبات وإسهامات استراتيجية، يعمل أولئك الباحثون على تهميشه بانتقادات أنظمة الحكم وسجل حقوق الإنسان. والمضحك أنهم يصرون على هذه التعمية في وقت يشاهد فيه العالم ديكتاتورية حزبية ديموقراطية أشد قسوة وتنكيلا بمواطني الدولة نفسها، وأن مشهد حقوق الإنسان المنتهك في فلسطين قد أسقط الأقنعة، كما أن الإجراءات غير الإنسانية في ترحيل المهاجرين غير الشرعيين تعرض صورة مغايرة للمجتمعات المثالية التي يبيعونها علينا، وهي ممارسات لا يمكن أن تحدث في دول الخليج.
ينبغي أن يعترف زملاؤنا في الغرب أنهم يعيشون ويروجون حالة من الانفصال الثقافي، فبعض الباحثين الغربيين يفتقرون إلى التفاعل العميق مع مجتمعات الخليج، ويُسقطون مُثُلهم الديمقراطية الخاصة على أنظمة اجتماعية وسياسية مختلفة اختلافًا جوهريًا. وببساطة فإن العقد الاجتماعي في دول الخليج- حيث توفر الحكومات الأمن والرفاه الاقتصادي والرعاية الصحية والتعليم المجاني، ويقدم المواطن الولاء السياسي - لا يتوافق مع المفاهيم الغربية للديمقراطية الليبرالية والرأسمالية الصلفة. لماذا لا تتسع دائرة الوعي، والتفاعل خارج أسوار الصورة النمطية للنظر بموضوعية لما تحقق من مكاسب في دول الخليج، بدلاً من رفض هذه الممارسات باعتبارها «رشوة» للمواطنين، يقابل ذلك تراجع متصاعد في رفاه المجتمعات الغربية، ونقمة واضحة على الأنظمة من قبل الشباب العازفين عن التصويت في الانتخابات، واتساع دائرة الفقر، وتهميش الحريات الفردية، والتلاعب بالديموقراطية لمصلحة من هم في السلطة. ليس هذا من باب الشماتة أو التعريض وإنما دعوة للتواضع.
من الإنصاف أيضاً مقارنة دول الخليج بغيرها من الدول الغنية بالموارد الطبيعية المتنوعة مثل النفط والغاز والأراضي الخصبة والأنهار، ومع ذلك تعثرت فيها التنمية بسبب سوء الإدارة أو الفساد أو الصراعات. في المقابل، استفادت دول الخليج - التي ولدت من رحم المعاناة والحاجة- من ثرواتها على نحو مثالي، مما يفرض على الباحث الموضوعي الاعتراف به دون التطبيل والإشادة أو التعريض والانتقاص.
تكريس الاستعلاء واجترار ديناميكية القوة بتصوير دول الخليج على أنها باقية بسبب الحماية الغربية أو بسبب مكاسب النفط المفاجئة، هو من باب التأكيد ضمنا على التفوق الغربي على حساب فاعلية دول الخليج. كما أن الإمعان في تصوير الشرق على أنه «جامد ودوني»، والتنكر لمساهمات دول الخليج في الاقتصاد والاستقرار العالمي -ومن ذلك استضافة ملايين المغتربين الذين ينفقون على اقتصادات أوطانهم وتُهمّش صوت الإنسان الخليجي- لا ينبغي أن يرتكبه مثقف فضلا عن باحث متخصص.