د. داليا عبدالله العمر
حين تُذكر كلمة «الصدمة»، يخطر في بال كثيرين الحروب، أو النجاة من حوادث مروعة، أو فقدان مفاجئ لأحد الأحبة. لكن ثمة نوع من الصدمات لا يقل وطأة، بل قد يكون أكثر خفاءً ودهاءً؛ هو ذلك الذي يتسلل من خلال العلاقات القريبة، والروابط التي بُنيت على الثقة ثم تهدّمت بخذلان أو إهمال أو تغيّر لم نفهم أسبابه.
هذه التجارب، التي قد تبدو عابرة في ظاهرها، قد تترك ندوبًا عميقة في الداخل، وتشكّل أساسًا لما يُعرف بـ اضطراب ما بعد الصدمة النفسية (PTSD). وهو اضطراب موثق في الطب النفسي، يحدث عندما يتعرض الإنسان لحدث ضاغط يفوق طاقته على التحمل، مما يجعل الدماغ يعيش في حالة طوارئ مزمنة، ويؤثر سلبًا على المشاعر، والسلوك، وحتى على وظائف الجسد.
[American Psychiatric Association, DSM-5, 2013]
الصدمة ليست دائمًا نتيجة لحادث صاخب أو مروع. أحيانًا تأتي من علاقة ظننت أنها سند، فإذا بها تتحول إلى مصدر تهديد نفسي. حين تُقابل الثقة بالتجاهل، أو تُجابَه النوايا الطيبة بالتشكيك، يحدث اضطراب عميق في الإدراك، وتبدأ رحلة الانهيار الداخلي.
هذا النوع من التجارب يعرفه الطب النفسي باسم الصدمة العلائقية (Relational Trauma)، وهو واسع الانتشار أكثر مما يُعتقد، فقد أظهرت دراسة McLean et al. (2020) في Journal of Consulting and Clinical Psychology أن كثيرًا من حالات اضطراب ما بعد الصدمة لا تأتي من كوارث كبرى، بل من علاقات متكررة اتسمت بالإيذاء النفسي، مثل التلاعب، التشكيك، التجاهل، أو النقد المستمر. وتؤكد الباحثة Judith Herman في كتابها Trauma and Recovery أن الصدمات التي تحدث داخل العلاقات الحميمة قد تكون مدمرة بقدر، أو أكثر، من الصدمات المرتبطة بالمواقف العنيفة أو المفاجئة.
حين يواجه الإنسان الخذلان من محيطه القريب، يختل نظام الأمان الداخلي لديه. تبدأ اللوزة الدماغية (Amygdala)، وهي الجزء المسؤول عن معالجة الخوف، في إطلاق إشارات إنذار مستمرة حتى في غياب الخطر الفعلي، مما يؤدي إلى ارتفاع دائم في هرمونات التوتر، مثل الكورتيزول والأدرينالين.[Sapolsky, 2004, Why Zebras Don»t Get Ulcers]
وتشير دراسات من Harvard Medical School إلى أن الأشخاص الذين مروا بتجارب نفسية مؤلمة داخل علاقاتهم، قد يعانون من فرط اليقظة (Hypervigilance)، أي يكونون في حالة ترقب دائم لأي تهديد محتمل، حتى وإن لم يكن هناك ما يستدعي الخوف.
[Yehuda الجزيرة LeDoux, 2007]
أحد أخطر تداعيات الصدمة النفسية هو تشوه الإدراك الذاتي. فبعد المرور بتجربة مؤلمة، لا يعود الشخص يثق بصوته الداخلي، ولا يرى نفسه كما كان. ينشأ شعور دفين بالخزي أو العار، وكأن ما حدث له كان بسبب «قصور» فيه، وهنا يظهر ما يُعرف بـ الصدمة الذاتية (Self-Directed Trauma)، حيث تتحول المشاعر السلبية إلى الداخل، ويبدأ الإنسان في جلد ذاته وشكّ قيمته.
[Courtois الجزيرة Ford, 2009]
هذا النوع من الصدمات لا يمس فقط الذاكرة أو العاطفة، بل يضرب في صميم الهوية، ويجعل الشفاء أكثر تعقيدًا وأطول زمنًا.
الكثير من المصابين باضطراب ما بعد الصدمة لا يصرخون… بل ينسحبون. يضحكون في المجالس، لكن داخلهم صحراء. هذا ما يُعرف بـ «التخدير العاطفي (Emotional Numbing)»، أي أن الإنسان يتوقف عن الشعور، لا لأنه لا يشعر، بل لأن الشعور أصبح مؤلمًا إلى حد لا يُحتمل.[Foa et al., 1995]
وقد ينعزل المصاب، يتوقف عن التفاعل مع الحياة، ويخاف أن يبوح بجرحه كي لا يُتهم بالضعف أو يُساء فهمه. لكن الله - عز وجل - طمأن القلوب القلقة حين قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}.
فالله وحده يعلم ما يعتمل في أعماق النفوس، حتى وإن لم يستطع الإنسان أن يعبّر.
ليس عيبًا أن تتألم. ولا يُنقص من قدرك أن تطلب المساعدة النفسية أو الروحية. بل إن الله - بلطفه - جعل الألم جسرًا للوعي والشفاء، فقال:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}. وقال: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}.
وقال نبيُّ الرحمة - صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا» (رواه الترمذي)
ما مررت به لم يكن نهاية… بل بداية.
ما ظننته كسرًا، قد يكون هو الباب الذي أعادك إلى نفسك.
الشفاء ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب صبرًا، وتعاطفًا مع الذات، ودعمًا صادقًا.
ربما لا تعود كما كنت.. لكنك ستعود أكثر وعيًا، أكثر حكمة، وأكثر قربًا من السلام الداخلي.
وتأكّد أن من آذاك سيُؤذى، وأن الظلم ظلمات، وأن الله يمهل ولا يهمل، وحقك لن يضيع عند علام الغيوب.
المراجع:
* American Psychiatric Association. (2013). DSM-5
* Courtois, C. A., الجزيرة Ford, J. D. (2009). Treating Complex Traumatic Stress Disorders
* Ehlers, A., الجزيرة Clark, D. M. (2000). Behaviour Research and Therapy
* Foa, E. B., et al. (1995). Journal of Consulting and Clinical Psychology
* Herman, J. L. (1992). Trauma and Recovery
* McLean, C. P., et al. (2020). Journal of Consulting and Clinical Psychology
* Sapolsky, R. M. (2004). Why Zebras Don»t Get Ulcers
* Yehuda, R., الجزيرة LeDoux, J. (2007). Nature Reviews Neuroscience