عبدالوهاب الفايز
نعود اليوم إلى الأفكار والمقترحات والتوصيات العديدة التي تضمنها كتاب الدكتور محمد عبدالعزيز الجرباء (قياس الأثر التشريعي وأهميته في الأنظمة والقرارات العامة)، الصادر عن مكتبة الرشد. كما ذكرنا سابقا، هذا الكتاب يقدم لنا - في الصحافة - الفرصة الفكرية لاستكشاف القضايا والتحديات الوطنية لإثراء الحوار والنقاش الوطني في القضايا المرتبطة بالقوانين وتطبيقها، وقياس أثرها. الكتاب يجدد حيوية الحوار حول أهمية رفع كفاءة منظومة التشريع والعدل، وهذه، عبر التاريخ، ظلت المرتكز الاساسي لاستقرار الدول والمجتمعات.
وقياس الأثر أصبح موضوعاً مهماً ورئيسياً ويستقطب اهتمام القطاعين العام وغير الربحي اللذين ظلا بعيدين عن إدراك أهمية قياس الأثر للإنفاق العام، وللتبرع للمشاريع الخيرية. طبعا أمامنا رحلة طويلة لبناء المهارات والقدرات التي تستطيع تطوير الآليات والأدوات لقياس الأثر، سواء في التشريع كما أوضحه المؤلف، أو في الأجهزة الوليدة في القطاع العام التي تتبع نموذج عمل نصف حكومي وخاص. هذه تستقطع نسبة مؤثرة من موارد الدولة، وقياس أثرها على حياتنا وعلى مجمل النشاط الاقتصادي ضرورة ملحة، وهذا ما يدعو إليه الدكتور الجرباء في كتابه.
ويُشكر الدكتور الجرباء على استثمار تأهيله الأكاديمي وخبرته الطويلة في القطاع العام، بالذات في مجال التشريع، على الاهتمام بقياس الأثر في منظومة القضاء والتشريع. مما طرحه يتضح حجم الحاجة الكبيرة التي تتطلب المعالجة السريعة وبعيدة المدى لتلافي المشكلات والانحرافات السلبية التي قد تترتب على تطبيق الأنظمة التي لم تستفد من محددات وتوجيهات قرارات مجلس الوزراء، والأدلة الاسترشادية التي تضع الحوكمة وتهيئ الموارد البشرية لإصدار الأنظمة. لذا هو يرفع راية حمراء لضرورة الاهتمام بقياس الأثر التشريعي، وحتى يكون جزءا من الحل يقترح إنشاء مركز لـ(قياس أداء الأجهزة الحكوميَّة والأثر التشريعي والتنافسية الدولية). وكما أشرنا في مقال الأسبوع الماضي، إذا اتجهت الدولة إلى مثل هذا المشروع الاستراتيجي، فلن تواجه مشكلة في حفز الجهود واستقطاب الكفاءات، فلدينا (كنز من الخبراء ورجال الدولة) الذين عملوا لسنوات طويلة في منظومة التشريع، ولديهم الآن فسحة الوقت، ولديهم الإيمان بأهمية المشاركة الوطنية لدعم الأمور الحيوية الأساسية التي تخدم الدولة واستقرارها.
ولإيضاح كيفية إجراء قياس الأثر التشريعي يقدم المؤلف (حالات دراسية قانونيَّة) وأمثلة توضيحية للدراسة والتحليل والإيضاح. لقد وقف عند عدد من الأنظمة والتشريعات التي تحتاج إلى متابعة مستمرة للنظر في أثرها بعد التطبيق للتأكد من فاعليتها في تحقيق الأثر التشريعي المستهدف.
ومثالا على ذلك قدم نظام الغش التجاري الذي تناولناه الأسبوع الماضي. وهناك أمثلة اخرى أوردها مثل حالة قطاع النقل حيث تأخرنا في توسعة شبكة خطوط حديدية للقطارات بين المدن؛ والآن ندفع ثمنا عاليا لمعالجة هذا التأخر!
تناول المؤلف هذا الموضع مستشهدا بكتاب (حياة في الإدارة) للدكتور غازي القصيبي رحمه الله، حين تناول مرحلة عمله مديرًا عامًّا في المؤسسة العامة للسكة الحديد.
فالراحل القصيبي ذكر أن توسعة خطوط السكك الحديد لم تتم لعدم جدواها الاقتصاديَّة. سابقاً، كانت القناعات والتصورات الشخصية تنظر إلى السكة كمشروع مستقل دون الأخذ في الاعتبار أثرها على الاقتصاد الكلي. ومع الأسف هذه القناعة ظلت سارية لدى القيادات الحكومية لسنوات طويلة مما أخر تطور السكك الحديدية. ومن هذه الحالة الدراسية يرى الدكتور الجرباء ضرورة وجود «جهة عليا أو مركز متخصص محايد تقوم أو يقوم بدور قياس الأثر التشريعي للقرارات الإستراتيجية العامة والأنظمة وتعديلاتها، دون أن تنفرد بها جهة تنفيذيَّة».
ومن الأمثلة المهمة والطارئة على الإدارة العامة في المملكة التي أوردها استخدام قياس مؤشرات الأداء KPIs. وهذه الآلية لم أعرف من خبراء الإدارة وقيادات القطاع العام من يرتاح لتطبيقاتها نتيجة عدم موضوعيتها. والتحفظات الفنية عليها أشار لها المؤلف، ويرى أنها من الامور «التي تحتاج إلى قياس الأثر التشريعي للتأكد من سلامة الفكرة والتطبيق، خاصة فيما يتعلق بالأعمال الذهنية كالاستشارات الشرعيَّة، أو القانونيَّة، أو أعمال القضاء والنيابة، أو الطب، وغيرها، سواء في الجهات الحكوميَّة أو الخاصة.»
وهذه الآلية لقياس الأداء عليها تحفظات رئيسية تكاد تتفق عليها مراجع وأدبيات الإدارة المعروفة. بدأ تطور هذا المفهوم في أوائل القرن التاسع عشر مع روبرت أوين، الذي طبق تقييمات الأداء في مصانعه للقطن. ثم جاء فريدريك تايلور في بداية القرن العشرين، الذي أدخل فكرة استخدام البيانات والقياسات في الإدارة العلمية.
أما المصطلح «مؤشرات الأداء الرئيسية» (KPIs) نفسه، فقد صاغه (جون إف. روكارت) في عام 1979، مع التركيز على المقاييس التنفيذية الحرجة. قبل ذلك، ساهم خبير الادارة المعروف بيتر دراكر في عام 1954 من خلال كتابه (ممارسة الإدارة) بفكرة الإدارة بالأهداف (MBO)، التي تعتمد على قياس الأداء.
ورغم أهميتها في بعض المجالات القابلة للقياس الدقيق، وفوائدها في قياس التقدم وتحسين الكفاءة، إلا أن استخدامها في الإدارة العامة (مثل الخدمات الحكومية والسياسات العامة) يحمل عدة سلبيات أكدتها الدراسات والتجارب. وبعد البحث في عدة مصادر كان الاتفاق على عدد من السلبيات أبرزها:
1- قيود البيانات وانحيازها: غالباً ما تكون البيانات غير كاملة أو غير متسقة، مما يؤدي إلى تشويه قياس الأداء واتخاذ قرارات خاطئة.
2- التركيز المفرط على المقاييس الكمية: يؤدي إلى إهمال الجوانب النوعية غير القابلة للقياس، مثل رضا المجتمع أو الآثار الاجتماعية طويلة الأمد، مما يشوه الأولويات في الخدمات العامة المعقدة.
3- التلاعب بالنظام (Gaming the System): قد يدفع الموظفون إلى التلاعب بالبيانات أو التركيز على تحقيق الأرقام على حساب الجودة الحقيقية، مما يؤدي إلى نتائج زائفة وفقدان الثقة.
4- زيادة التكاليف والموارد: يتطلب تطوير ومراقبة KPIs موارد كبيرة، بما في ذلك الوقت والتدريب، مما يثقل كاهل الإدارات الحكومية ذات الميزانيات المحدودة.
5- التأثير السلبي على الموظفين: يمكن أن يؤدي إلى إحباط الموظفين وتقليل الدافعية، حيث يشعرون بالضغط أو الإنسانية المفقودة (مثلا، في المجالات الاجتماعية والصحية)، وغيرها من الخدمة العامة التي تعتمد على التعاون.
6- صعوبة التكيف مع السياقات المعقدة: في الإدارة العامة، قد لا تعكس KPIs الواقع الكامل بسبب التغييرات السياسية أو الظروف الخارجية، مما يؤدي إلى تفسير خاطئ أو عدم فعالية.
طبعا هناك سلبيات وتحديات أخرى وهي موجودة ومنشورة في عدد من الدراسات والأبحاث. لذا الدكتور الجرباء يؤكد على أهمية دراسة الأثر التشريعي لمثل هذا الأمر لأنها - حسب رأيه - ستؤدي إلى «نتائج سلبية غفل عنها متخذ القرار عندما تكون مؤشرات الأداء مضللة».
وبحكم معرفته في مجاله يرى أن العمل القانوني أو الاستشاري يختلف في طريقة إنجاز معاملة عن أخرى اختلافًا كليًّا. ويوضح أن العمل في المجال القانوني أو الاستشاري، أو القضائي قد لا يكون دقيقا إذا كان المطلوب من الموظف «أن ينجز ما لديه» بطريقة قد «تفتقد إلى الجودة والدقة وإن كان يعتقد أنها فاعلية (Effectivencss)، وليست على المستهدف الأهم وهو الجودة (qualily)»، وهذا المنحى في العمل - حسب رأيه - سوف يوجد «أمور على المدى البعيد تكون مرتكزات حضارية ضيعت بسب التطبيق الخاطئ المؤشرات قياس الأداء! ونحن دائمًا نؤكد أهمية سرعة الإنجاز وإحكام جودة المنتج. لقد رأينا بعض الجهات تتباهى بأنه لا يوجد لديها معاملات متأخرة، ولكن ماذا تم بهذه المعاملات المنجزة؟».
ثمة موضوعات أخرى لا تقل أهمية أوردها كحالات دراسية تتطلب تحليل الأثر المترتب على تطبيقها، حتى نضمن كفاءة عملية التشريع وصنع السياسات الحكومية. وسوف نتطرق إلى عدد منها الأسبوع المقبل.