د. محمد بن أحمد غروي
قبل أيام، تبادل الجيشان التايلاندي والكمبودي إطلاق النار على الطرف الحدودي المتنازع عليه، مما أسفر عن مقتل 11 تايلانديًا على الأقل، في تصعيد خطير لنزاع حدودي مستمر منذ سنوات. وقعت الحادثة بالقرب من معبد «تا موان ثوم»، الواقع على طول الحدود بين مقاطعة سورين التايلاندية ومقاطعة أودار مينشي الكمبودية. وامتدت نيران الاشتباك إلى خمس مناطق أخرى على طول الحدود، بل تطورت المناوشات إلى استخدام أسلحة ثقيلة، بما في ذلك أنظمة قاذفات صواريخ متعددة، ومدفعية، ودبابات، ومركبات مدرعة، في مؤشر على تطور التوتر الحدودي بين البلدين إلى اشتباكات عسكرية قد تشهد ارتفاعًا في الخسائر بين الجانبين. تاريخيًا، يعود الخلاف الحدودي إلى منطقة «المثلث الزمردي» المتنازع عليها، وتبلغ مساحتها حوالي 12 كيلومترًا مربعًا فقط، وتقع عند مفترق طرق بين ثلاث دول: مقاطعة أوبون راتشاثاني في تايلاند، ومقاطعة برياه فيهير في كمبوديا، ومقاطعة تشامباساك في لاوس، إضافة إلى معبد «براسات تا موين ثوم» في جبال دانغريك، الواقع في منطقة حدودية بين البلدين. وتدّعي كل من المملكتين تبعية المعبد لها؛ فكمبوديا تطالب بالمعبد استنادًا إلى حدود إمبراطورية الخمير التاريخية، التي شملت كمبوديا الحالية وأجزاء من تايلاند، بينما تقول تايلاند إنه يقع ضمن أراضي مقاطعة سورين التابعة لها. وقد سبق لمحكمة العدل الدولية أن حكمت لصالح كمبوديا، إلا أن القوات التايلاندية لا تزال متمركزة في المنطقة المحيطة بالمعبد. ولسنوات عديدة، كان لدى البلدين تفاهم مشترك ينظم زيارة الموقع سنويًا. سابقًا، انخرط البلدان في توترات مشابهة، وبعضها كان أكثر عنفًا، أبرزها في عام 2008، بعد محاولة كمبوديا إدراج معبد «برياه فيهير» - وهو جزء من المجمع الواقع في المنطقة الحدودية - كموقع تراث عالمي لليونسكو. ثم بلغ العنف ذروته في عام 2011، مع معركة مدفعية متواصلة استمرت أسبوعًا بين الجارتين. وفي ذلك الوقت، لجأت كمبوديا إلى محكمة العدل الدولية طالبةً توضيح حكم صدر عام 1962، منح المعبد لكمبوديا، وإصدار تدابير لمنع المزيد من المواجهات العسكرية. وفي عام 2013، أكدت المحكمة مجددًا أن مجمع المعبد بأكمله يقع داخل الأراضي الكمبودية.
ومع تصاعد الأحداث والتوترات مع تايلاند، تم تفعيل قانون التجنيد الإلزامي الذي ظل خاملاً لفترة طويلة. وأصبح الوضع أكثر تعقيدًا بين البلدين عقب تسريب مكالمة لرئيسة وزراء تايلاند مع رئيس وزراء كمبوديا السابق، والسياسي البارز ووالد الحاكم الحالي ورئيس البرلمان، هون سين، تحدثت فيها رئيسة الوزراء التايلاندية بلهجة مخففة عن النزاع، وانتقدت أحد قادة الجيش في بلادها، ما أثار عاصفة من الهجوم ضدها، ودفعها إلى الاستقالة، متسببة في تعقيد العلاقات بين قادة البلدين أكثر من ذي قبل. وقبل يوم واحد فقط من الاشتباك العسكري، أعلنت تايلاند عن استدعاء سفيرها لدى كمبوديا وطرد السفير الكمبودي، عقب حادثة لغم أرضي أسفرت عن إصابة جندي تايلاندي على طول الحدود المتنازع عليها. من الواضح أن التطورات الأخيرة تشكل مؤشرًا خطرًا على العلاقات بين البلدين، وكذلك على المنطقة التي تدفع باستمرار نحو الحلول السلمية وتعزيز الاستقرار من أجل دعم نموها الاقتصادي. وتأتي المواجهة بين تايلاند وكمبوديا في وقت حرج بالنسبة لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، التي تتعرض أصلًا لضغوط بسبب أزمة ميانمار. كما يُضعف التوتر الحدودي فرضية «المركزية الآسيانية»، التي تقوم على منع الحرب بين الأعضاء، ويثير تساؤلات حول قدرة الرابطة على العمل بفعالية كوحدة واحدة لمعالجة التوترات الجيوسياسية المتزايدة، في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى ذلك. كما أن التزام آسيان بمبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأعضاء يحدّ من فعالية التأثير المرجو منها. ورغم ذلك، عملت الرابطة بالفعل على خفض التصعيد بين البلدين، وإعادتهما إلى طاولة الحوار والتهدئة بدلًا من التوتر العسكري الذي يؤثر سلبًا على المنطقة بأكملها. وبدأت الأصوات تخرج من قادة آسيان داعية إلى التهدئة، وكان في مقدمتها دعوة رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم - رئيس رابطة آسيان هذا العام - إلى الهدوء والتراجع من الطرفين والانخراط في المفاوضات، معتبرًا أن السلام هو الخيار الوحيد المتاح. وقد أعلن لاحقًا موافقة الطرفين مبدئيًا على وقف إطلاق النار وسحب قواتهما العسكرية من منطقة النزاع. لكن مع استمرار تبادل إطلاق النار، دعت وزارة الخارجية الماليزية الطرفين إلى الاحتكام إلى لجنة الحدود المشتركة.
ترى كمبوديا أن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية لحل النزاع هو الخيار الأمثل، حتى وإن استغرق الأمر سنوات عديدة، أما تايلاند فتدعو إلى حل النزاع بشكل ثنائي بعيدًا عن المحكمة الدولية، حيث لا تعترف باختصاصها في هذا الشأن. قد لا تتوسع الاشتباكات العسكرية بين البلدين في الأيام المقبلة، خاصة مع ما يترتب على النزاع العسكري من انعكاسات اقتصادية في حال طال أمده. وقد أعلنت ماليزيا بالفعل بدء خطوات وساطة بين المملكتين، ودعتهما إلى كوالالمبور للجلوس على طاولة المفاوضات والتوصل إلى اتفاق في أقرب وقت ممكن. وأكد رئيس الوزراء الماليزي ترحيب نظيره الكمبودي هون مانيت، ورئيس الوزراء التايلاندي بالإنابة بومتام ويشاياشاي، بمبادرته واقتراحه لإطلاق عملية سلام ووقف إطلاق النار.