فيصل بن عبد الله بن محمد آل سعود
عام 1990م كانت أول رحلة أقوم بها إلى الصين؛ وذلك لأنني كنت في رحلة إلى اليابان لحضور اجتماع الاتحاد الدولي للفروسية لإشهار الاتحاد السعودي للفروسية وانتسابه إلى الاتحاد الدولي، وعندما استأذنت للسفر من الملك عبد الله بن عبد العزيز - يرحمه الله - أبديت رغبتي بزيارة الصين، قال لي: ولماذا الصين؟ فأخبرته بأنني أتطلع إلى التعرف على تلك الحضارة، وأود بناء علاقات تجارية معهم، هنا نظر إلي الملك قائلاً: «سأخبرك بقصتي مع الصين، في يوم من الأيام في الستينات الميلادية حضر رجل أعمال واقترح علي أن أشارك معهم في الاستثمار بمصنع للأحذية في الصين، ويحتاجون لمبلغ مليون دولار لم أستسغ فكرة الاستثمار في الأحذية، وتعذرت منه تلك الليلة لم يبارحني التفكير في ذلك الاستثمار، حيث إني فكرت في أن الصين يبلغ تعداد سكانها ما يقارب البليون نسمة وفي حاجة إلى عدد كبير من الأحذية، فاتصلت برجل الأعمال في الصباح وأخبرته أنني مهتم، وأن لديه بعد نظر في هذا الاستثمار، وسوف أحاول تأمين المبلغ لمشاركتهم. حاولت تأمين المبلغ، ولكن لم يتيسر لي، فاعتذرت منه متحسراً على فوات تلك الفرصة الاستثمارية».
شجعني - يرحمه الله - على السفر إلى الصين والتعرف على ذلك البلد المستقبلي العظيم، ولا أنسى عند وصولنا صباحاً، انتابنا شعور غريب ونحن نرى هذا السيل من البشر على دراجاتهم الهوائية والنارية، ولبسهم «الماوي» الموحد.. قضينا أياماً تعرفنا فيها على حضارة عريقة كان لها دور كبير يمتد ويلامس جزيرتنا العربية منذ أيام طرق التجارة وعلى رأسها «طريق الحرير».
كانت تلك الأيام فترة انتقالية مهمة في عهد الرئيس «دينغ شياو بينغ» الذي قاد الصين إلى تبني اقتصاد السوق الحر، حيث كانت نقلة الانفتاح التدريجي التي رأينا بداية تأثيرها، فقد سنحت لنا فرص التحدث إلى بعض المسؤولين، ومن أهم ذكرياتي طعام الغداء الذي جمعنا به سفير المملكة العربية السعودية «توفيق علمدار» الرجل الفاضل - تقبله الله بواسع رحمته - بالسيدة «وو يي wu» التي كانت عمدة بيكين آنذاك، رحبت بنا وكانت منفتحة على المقترح الذي طرحناه عليها بناء على رغبة السفير السعودي وهو السماح بتخصيص موقع لمركز ثقافي سعودي يحتوي على مكتبة ومسجد ومركز صحي، حيث كان السفير السعودي يعاني من التوجهات التي تقودها دول تحاول التحكم في المجموعات العربية والمسلمة بأفكار متطرفة تسيء إلى رسالتنا الوسطية، وعدتنا تلك السيدة بأن تدعم هذا الطلب وتخصص موقعاً مهماً في بكين لهذا المقترح، حملت تلك الرسالة بعد عودتي إلى - المغفور له بإذن الله - الملك عبد الله بن عبد العزيز عندما كان ولياً للعهد، وكان المدخل هو مكتبة الملك عبد العزيز العامة، وأتذكر قولي له حين عرضت الموضوع عليه: سيدي لقد مكنكم المولى من افتتاح فرع لمكتبة الملك عبد العزيز بالمغرب الشقيق، وهذه فرصة ليمتد عطاؤكم ودعمكم للعلم والمعرفة لاغتنام هذه الفرصة. وكما قبل اطلب العلم ولو بالصين» لتصل رسالتكم من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق» ، فلم يتردد أو يتوانَ - يرحمه الله - وأمر الإخوان في مكتبة الملك عبد العزيز بالعمل على تحقيق ذلك الهدف، فأتت الفرصة لبناء مركز ثقافي في موقع مهم، لكنها تحققت بعد سنين بافتتاح فرع المكتبة الملك عبد العزيز في جامعة بكين عندما زار الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله ورعاه - الصين قبل سنوات، ولا أنسى هنا السفير الصيني في المملكة في التسعينات الميلادية كأول سفير للصين «سون بي قان» (cun bi gan) الذي كان له أكبر الأثر في تسهيل تلك الرحلة وبناء صداقة أخوية دامت لسنين، وكان متابعاً ومؤمناً بأهمية بناء علاقات قوية ومتينة بين المملكة والصين.
تجربتي الثانية في الصين كانت في معية - المغفور له بإذن الله - الملك عبد الله بن عبد العزيز في رحلته حول العالم. في عام 1998م التي زار فيها أوروبا وأمريكا وآسيا، حيث كانت الصين من أهم محطاتها، وكان - يرحمه الله - مهتماً بالاطلاع عن قرب لمعرفة الصين العظيمة كما كان يسميها. وفي مقابلته مع الرئيس «زيمين» رئيس الصين العظيمة، وجه لسموه الحديث قائلاً: «يا سمو الأمير أنتم لديكم أعظم قوة وهي البترول»، وأراد أن يسترسل، فرفع الملك عبد الله يده قائلاً: «فخامة الرئيس، معذرة عن المقاطعة، لدينا شيئان أهم من البترول، هما مكة المكرمة والمدينة المنورة، البترول مهم كوسيلة، ولكن ثروتنا الحقيقية والدائمة، هي في تشرفنا بخدمة الحرمين الشريفين قبلة المسلمين ومثوى الرسول الأمين، فإذا كنتم بليوناً ومائتي نسمة، فنحن بليون وخمسمائة مليون مسلم».
كانت رحلة استكشافية بمعنى الكلمة، زرنا خلالها أهم المعالم التاريخية والسياحية، كما تسوقنا بمعيته - يرحمه الله - وحضرنا العروض المسرحية، ولا أنسى رحلته إلى مدينة «شي آن» (xi an) حيث يوجد أقدم مساجد الصين الذي أسس على يدي اثنين من الصحابة - رضي الله عنهما - عندما حملا وأوصلا للصين هذا التنزيل العظيم الكريم سنة خمسين من الهجرة، فعندما استقبلهما آلاف المسلمين في الشوارع المؤدية إلى المسجد مرددين «السلام عليكما» بحكم تعودهم السلام على قبري الصحابة الموجودين في زاوية من المسجد، وبعد دخولنا المسجد والصلاة فيه، قابل - يرحمه المولى - أئمة المسجد والجالية المسلمة مستفسراً عن أحوالهم وخاطبهم قائلاً: «إخواني لقد منَّ الله علينا بهذا الدين الحنيف وأوصله على يد أسلافنا رسالة تدعو إلى السلام والخير والتسامح، فأنتم من يحمل هذه الرسالة في بلد احتواكم، وها أنتم - بحمد الله وتوفيقه - تنعمون بوحدتكم وتكاتفكم، فمهما كانت الظروف يجب أن تحترموا قوانين البلد الذي تعيشون فيه، وأن تسعوا إلى التمسك بمقاصد ومبادئ رسالة ديننا الحنيف الداعي إلى التعايش والسلام مدينة «شي آن» رسالة ذات أهمية أراد الملك عبد الله أن يرسلها لنا مرافقيه وكذلك للإخوة الصينيين «شي آن» فهي عاصمة الإمبراطورية الصينية، كذلك هي تاريخ الرسائل سياسية واقتصادية، وأهمها عسكرية، فيها من أهم المكتشفات التاريخية جيوش التريكوتا»، وهذا المكتشف الآخر يذهل الزائر بدقة تكويناته من الخيول والعربات والدروع والمحاربين، جميعها صنعت من الطين النضيح لتخيف الأعداء. هذه الرحلة كانت من أهم الدروس التي أثرت وأبقت الصين عظيمة دائماً في نظري.
رحلتي الثالثة للصين كانت في معية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - تغمده المولى بواسع رحمته - في أولى رحلاته عام 2005م عندما تولى دفة الحكم كان اهتمامه - يرحمه الله - بالصين واضحاً عندما عرضت على مقامه الكريم موضوع تمويل شمال الصين بالبترول من حقل الشيبة إلى ميناء صحار بمقترح من الإخوة العمانيين وعبر ميناء جوادر الباكستاني، حينها طلب الخريطة وهو بالطائرة متوجهاً إلى الصين ليرى الخط المقترح ووجهني إلى تقديم المقترح لوزير البترول والثروة المعدنية آنذاك معالي الدكتور علي النعيمي - عافاه الله وشفاه - كما كانت هناك في تلك الأيام مبادرات مع شركات النفط الصينية لبناء مخزون كبير من النفط في الجزر الصينية مدعوماً بشراكة سعودية - صينية هذه الرحلة، في بداية ما نراه يتحقق اليوم، وقد توجت بذلك الاستقبال المهيب في صالة الشعب وبالمحادثات الصريحة والصادقة والبناءة مع الرئيس الصيني هو جين تاو» التي أرست مبادئ التعاون في العديد من المجالات التي تجني ثمارها اليوم.
وكان ختامها زيارة مدينة شانغهاي مدينة الماضي التجاري العريق والمستقبل التقني الواعد الصين دائمة الوجود بأهميتها في الرؤية للعلاقات المستقبلية بينها وبين المملكة.
وهنا كانت رحلتي الرابعة في عام 2005م بعد رحلتنا في معيه خادم الحرمين الشريفين وبتوجيه من المقام الكريم أثناء خدمتي في جهاز الاستخبارات، وهدفها كان بناء علاقات والتعرف على الجهاز الاستخباراتي الصيني خصوصاً الدور الذي يلعبه معهد اللغات (China Development Institute. كنت في هذه الرحلة مع نخبة من الزملاء في الجهاز من أصحاب الاختصاصات المتنوعة للاستفادة من تجارب الأصدقاء في الجهاز الصيني بددت حفاوة الاستقبال والانفتاح الذي لم نكن نتوقعه الصورة المغلوطة التي بنيت في أذهاننا عن الجهاز الاستخباراتي الصيني، بددها الأصدقاء بكرم الضيافة وحسن التعامل وتوفير المعلومات التي كنا نسعى لها، وكان كرم استضافتهم بدعوتنا لزيارة مدينة شنغهاي» والاطلاع على التطور العمراني والتقني، ورحلتنا في القطار السريع تجربة لا تنسى للاطلاع على ما ستكون عليه وسائل المواصلات المستقبلية الرحلة الخامسة كانت عام 2014م وكان لها وقع يختلف، فبعد سنوات من إرسال أبنائي إلى الصين للدراسة، بمقترح من جدهم - يرحمه الله - سافرنا جميعاً كعائلة لحضور تخرج الابن الأكبر من الجامعة، كانت من أسعد وأمتع الرحلات في حياتي كأب يعتز ويفخر بتخرج ابنه كأول فرد من العائلة يكمل تعليمه بالصين، حيث إن إيماني بأهمية التعرف على تلك الحضارة، وكذلك استلهام المستقبل الذي تلعب الصين فيه دوراً مهماً في مسيرة قطار التطور السريع، فالصين بدأت منذ سنوات ليست بعيدة بالتقليد ثم بالتجويد، وأخيراً بالابتكار والتطوير التكنولوجي الذي يضاهي بل يتفوق على المنافسين في بعض حقول التقنيات المستقبلية.
في هذه الرحلة ذكريات لا تُنسى، كان منها ما تركه علينا من انطباع سفير خادم الحرمين الشريفين المهندس «يحيى الزيد» - يرحمه الله - الذي كان أباً للأبناء في غربتهم، كما غمرنا بحفاوته هو وعائلته أثناء إقامتنا بالتواصل والسؤال الدائم عنا. كما أن زيارتنا لمدينة شنغهاي المدينة التاريخية والمستقبلية حيث هي أقدم الموانئ التاريخية التي لعبت دوراً كبيراً في التجارة الصينية، وقد كانت هناك توأمة بين ميناء جدة وميناء شنغهاي في القرن الثامن عشر الميلادي.
مر ما يقرب من ثلاثة وثلاثين عاماً على أول زيارة قمت بها إلى الصين، وهنا وبعد مرور ثلاثة أيام على إثر التجمع في مؤتمر الأعمال العربي - الصيني العاشر، والأول الذي استضافته المملكة العربية السعودية يومي 11 و12 يونيو 2023م، بمركز الملك عبد العزيز الدولي للمؤتمرات في العاصمة السعودية الرياض، قررت كتابة ذكريات هذه الرحلات والتواصل في هذا المقال متطلعاً بكثير من التمنيات إلى علاقات أمتن بناءً على المصالح المشتركة، وعلى حاجة الطرفين ليستمر طريق الحرير (الحزام والطريق) موازياً لطريق البوليستر.