د. سفران بن سفر المقاطي
في عالم يزداد تعقيدًا وترابطًا، حيث تتشابك القضايا العالمية وتتداخل المصالح، تبرز الندوات والمؤتمرات الدولية كأدوات محورية لإعادة تشكيل موازين القوى وصياغة الأجندات المستقبلية. فبينما كانت القوة تُقاس تقليديًا بحجم الجيوش وقوة الاقتصادات، أصبحت اليوم تُحدد بالقدرة على التأثير في الأفكار، وبناء التحالفات الاستراتيجية، وتوجيه الحوار العالمي نحو مسارات بناءة.
لقد شهدت السنوات الأخيرة، وخاصة في أعقاب التحولات الجيوسياسية المتسارعة والتحديات الصحية والاقتصادية العالمية، تطورًا ملحوظًا في دور هذه المنصات، لتتحول من مجرد تجمعات للنقاش إلى مراكز حيوية لصناعة القرار وتوجيه السياسات الدولية. لذا أدركت الدول الكبرى والناشئة على حد سواء أن الاستثمار في استضافة وتنظيم المؤتمرات الدولية الكبرى يمثل استثمارًا استراتيجيًا طويل المدى في بناء النفوذ والمكانة الدولية. هذه المنصات لم تعد تقتصر على كونها فضاءات للحوار الأكاديمي أو الاقتصادي، بل تحولت إلى محركات للقوة الناعمة، قادرة على التأثير في مجالات تتراوح من الاقتصاد والتجارة إلى البيئة والتكنولوجيا والأمن.
يُعد منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، الذي احتفل مؤخرًا بدورته الرابعة والخمسين في يناير 2024، نموذجًا متطورًا لهذه الظاهرة. لقد تجاوز المنتدى دوره التقليدي كملتقى للنخب الاقتصادية ليصبح منصة لمعالجة أكثر القضايا إلحاحًا في عصرنا، من تأثيرات الذكاء الاصطناعي على سوق العمل إلى التحديات الأمنية الناجمة عن التوترات الجيوسياسية. وشهدت دورة العام الماضي مشاركة قياسية تجاوزت 2800 قائد من 120 دولة، بينهم 60 رئيس دولة وحكومة، مما يؤكد الأهمية المتزايدة لهذه المنصة في تشكيل الأولويات العالمية.
وفي السياق الآسيوي، يواصل منتدى بواو الآسيوي تعزيز مكانته كمنصة رئيسية للحوار الاقتصادي في المنطقة. ففي دورته الأخيرة في أبريل 2024، والتي حملت شعار «آسيا والعالم: الرخاء المشترك والتحديات والفرص»، شارك أكثر من 2000 مندوب من 60 دولة، وتم توقيع اتفاقيات تجارية واستثمارية بقيمة تجاوزت 150 مليار دولار. وقد نجحت الصين من خلال هذا المنتدى في تعزيز مبادرة الحزام والطريق، التي انضمت إليها حتى الآن أكثر من 150 دولة ومنظمة دولية، مما يعكس القوة التأثيرية لهذه المنصات في بناء الشراكات الاستراتيجية.
أما في المنطقة العربية، فقد شهدت تحولًا نوعيًا في استخدام المؤتمرات والندوات كأدوات للقوة الناعمة. فالمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، نجحت في تحويل منتدى مبادرة الاستثمار المستقبلي المعروف باسم «دافوس الصحراء»، حيث استقطبت النسخة السابعة منه في أكتوبر 2023 أكثر من 7000 مشارك من 100 دولة، وشهدت الإعلان عن صفقات واستثمارات بقيمة تجاوزت 20 مليار دولار. كما أطلقت المملكة في عام 2024 «منتدى الرياض الدولي للأمن السيبراني»، الذي أصبح أكبر تجمع متخصص في هذا المجال بالمنطقة، بمشاركة أكثر من 500 خبير دولي و120 شركة عالمية متخصصة.
شكلت استضافة المملكة قمة مجموعة العشرين في نوفمبر 2020 نقطة تحول تاريخية في مسيرتها الدبلوماسية، حيث نجحت في تنظيم قمة افتراضية ناجحة جمعت قادة أكبر اقتصادات العالم، وأسفرت عن مبادرات مهمة كتعليق مدفوعات خدمة الديون للدول الأكثر فقرًا. وفي إطار مبادرة السعودية الخضراء، نظمت المملكة «قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر» سنويًا منذ 2021، والتي جمعت في نسختها الرابعة (2024) قادة من 40 دولة، وأسفرت عن التزامات بزراعة 50 مليار شجرة واستثمارات في مشاريع الطاقة النظيفة بقيمة 180 مليار دولار. كما أطلقت المملكة في 2023 «المؤتمر العالمي للذكاء الاصطناعي» في الرياض، الذي استقطب في نسخته الثانية (2024) أكثر من 20000 مشارك، بما في ذلك شركات رائدة في الذكاء الاصطناعي مثل «OpenAI» و»Google DeepMind» و»Microsoft». وقد أعلنت المملكة خلال المؤتمر عن استثمارات بقيمة 22 مليار دولار في مشاريع الذكاء الاصطناعي حتى عام 2030. وتطمح المملكة، ضمن رؤية 2030، إلى استضافة 1000 مؤتمر دولي سنويًا، وجذب 10 ملايين زائر دولي، وتحقيق إيرادات بقيمة 25 مليار دولار سنويًا من هذا القطاع، مع إيجاد 300 ألف وظيفة جديدة، للوصول إلى المرتبة العاشرة عالميًا في مؤشر وجهات المؤتمرات بحلول عام 2030.
على الصعيد الأوروبي، واصلت ألمانيا تعزيز مكانتها من خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن»، الذي شهدت نسخته الستين في فبراير 2024 مشاركة قياسية بلغت أكثر من 500 شخصية رفيعة المستوى، بما في ذلك 45 رئيس دولة وحكومة و85 وزير خارجية ودفاع، متناولًا قضايا حساسة مثل الأمن الأوروبي وتحديات المحيطين الهندي والهادئ. أما فرنسا، فقد عززت استثماراتها في هذا المجال بإطلاق «منتدى باريس للسلام» في 2018، الذي أصبح منصة سنوية مهمة للحوكمة العالمية، وشهدت نسخة 2023 منه مشاركة أكثر من 10000 مشارك وإطلاق 80 مبادرة دولية. كما نجحت في استضافة «القمة العالمية للعمل المناخي» في يونيو 2023، التي جمعت أكثر من 50 رئيس دولة وحكومة، وأسفرت عن تعهدات بقيمة 2.5 مليار يورو لصندوق الخسائر والأضرار.
تؤدي المؤتمرات المتخصصة دورًا متزايدًا في تشكيل السياسات العالمية في مجالات محددة. فمؤتمر «الأمن السيبراني العالمي» الذي عُقد في لندن في مارس 2024، جمع أكثر من 5000 خبير من 80 دولة، وأسفر عن إطلاق «الميثاق العالمي للأمن السيبراني». كما شهد «المؤتمر العالمي للذكاء الاصطناعي» في سان فرانسيسكو في يونيو 2024 مشاركة أكثر من 10000 متخصص، وإطلاق مبادرات لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي بقيمة استثمارية تجاوزت 50 مليار دولار. وفي مجال الصحة العالمية، أصبحت المؤتمرات الطبية منصات حيوية لتبادل المعرفة ومواجهة التحديات الصحية، مثل «المؤتمر العالمي للصحة» في برلين (أكتوبر 2023)، الذي ركز على دروس جائحة كوفيد - 19 وأطلق «صندوق الاستعداد للجوائح» بتمويل أولي قدره 3.1 مليار دولار.
ومع ذلك، تواجه صناعة المؤتمرات على الصعيد العالمي تحديات متزايدة، إذ تؤدي ارتفاع تكاليف السفر والمشاركة إلى الحد من فرص الحضور المتكافئة، خاصة بالنسبة للأفراد من البلدان النامية. كما تلقي التوترات الجيوسياسية المستمرة بظلالها على حرية التنقل والمشاركة الفعّالة، حيث أظهرت دراسة حديثة أن منظمي الفعاليات يواجهون صعوبات في استخراج التأشيرات للمشاركين. بالإضافة إلى ذلك، يبرز قلق متصاعد حول استغلال بعض الدول أو الجهات ذات السجل الضعيف في الحوكمة للمؤتمرات كوسيلة لتحسين صورتها الدولية. ولكن وفي المستقبل القريب، من المتوقع أن تشهد صناعة المؤتمرات تحولات جذرية بفضل التقنيات الحديثة. فالذكاء الاصطناعي سيمكن من ترجمة فورية أكثر دقة وتخصيص تجارب المشاركين، وستتيح تقنية «البلوك تشين» توثيقًا أكثر أمانًا للاتفاقيات والقرارات. وتشير التوقعات إلى أن 40 % من المؤتمرات الدولية ستكون هجينة بحلول عام 2027، مما يتيح مشاركة أوسع وأكثر شمولية.
وفي الختام، إن الندوات والمؤتمرات الدولية في عصرنا الحالي تمثل أكثر من مجرد تجمعات، بل أصبحت فضاءات ديناميكية لصياغة السياسات، وتبادل الخبرات، وتحفيز الابتكار على المستويين الوطني والدولي. فمن خلال منصاتها المتنوعة، يتم إطلاق مبادرات رائدة تسهم في معالجة القضايا الملحة كالتغير المناخي، والصحة العامة، والأمن السيبراني، والتنمية المستدامة. كما أنها تتيح فرصة ثمينة لتقريب وجهات النظر بين الثقافات والشعوب، وتدعم حوار الحضارات، وتفتح آفاق التعاون العابر للحدود. فالمؤتمرات اليوم باتت محركًا رئيسيًا لتشكيل شبكات العلاقات الدولية، حيث يلتقي القادة وصناع القرار والخبراء لوضع استراتيجيات مشتركة. ولا يمكن إغفال الأثر الاقتصادي الكبير لهذه الصناعة، إذ تسهم بشكل مباشر في دعم قطاعات الضيافة والسياحة والنقل والتقنيات الحديثة، وتوليد فرص العمل وإطلاق الاستثمارات الجديدة. وفي عالم يزداد تعقيدًا وترابطًا، تبقى المؤتمرات والندوات منصات لا غنى عنها لمواجهة التحديات المشتركة، وبناء مستقبل أكثر تعاونًا وازدهارًا للبشرية جمعاء. والدول التي تدرك هذه الحقيقة وتستثمر بحكمة في هذه الأدوات، ستكون الأكثر تأثيرًا وحضورًا في رسم ملامح النظام العالمي الجديد، والمنافسة على ريادة القطاعات الحيوية في العقود القادمة.