بعد تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب زمام السلطة مجددًا مطلع العام الجاري، ازداد انتشار مفهوم الغموض الاستراتيجي للسياسة الخارجية الأمريكية نوعاً ما، وكأنه يأخذ منحنى آخر عن الغموض الاستراتيجي الأمريكي المعهود؛ بسبب ظروف المرحلة الراهنة مثل التصعيدات الأخيرة في الشرق الأوسط وموقف الإدارة الأمريكية تجاهها ودواعي الحرب التجارية الأمريكية - الصينية.
وقد يكون أيضًا أن المحللين السياسيين والمهتمين بالشأن الأمريكي لاحظوا تنامي هذا المفهوم في أسلوب السياسة الخارجية الأمريكية، أو ربما يجدون صعوبة في تحليل الموقف الأمريكي تجاه القضايا الشائكة في الشرق الأوسط مع عدم المقدرة على التنبؤ بنوايا واشنطن إزاء التعامل معها وما طبيعة الموقف الأمريكي حيالها.
كما أنه من الشائع في مثل هذه الحالات اللجوء إلى مبدأ عدم اليقين نتيجة للعجز في تفسير بعض الظواهر السياسية المستجدة، بسبب نقص في المعلومات وعدم وجود سوابق مماثلة لهذه الظواهر مما يعيق استنباط السلوك التجريبي المتوقع تجاهها. وكذلك التغافل عن طبيعة وآلية صنع القرار السياسي داخل أروقة البيت الأبيض، وفقدان قابلية فهم العقلية الأمريكية بشكل دقيق ما يؤدي إلى اتباع فرضية عدم اليقين تلافيًا للخوض في المآلات المستقبلية المجهولة.
ويحدث ذلك أسوة ببعض الاقتصاديين عندما تخيب توقعاتهم حول معدلات النمو الاقتصادي وأثر التضخم وانعكاسات رفع أو خفض معدل الفائدة، ويفضلون تبرير ذلك بحالة من عدم اليقين وترك التنبؤ للمستقبل. بينما المدرسة الواقعية للتحليل السياسي في العلاقات الدولية لا تؤمن باستخدام هذا المبدأ إلا في حالات محدودة، فلا يحبذ استخدام هذا النوع من المفاهيم في الحقل السياسي لعدم إعاقة فهم آخر المستجدات السياسية والتوصل للنتيجة الأصوب. وقد يكون من الأفضل في كثير من الأحيان الاستغناء عن مفهوم عدم اليقين واستبداله بنموذج فرض الاحتمالات والبدائل المتوقعة لمستقبل الواقع السياسي.
وتقليصًا للتفنيد المطول لا بد من الإشارة هنا إلى أن مصطلح الغموض الاستراتيجي التصق بالسياسة الخارجية الأمريكية في العقود الماضية وكان أكثر شيوعًا حول مسألتين شائكتين. الأولى قضية مضيق تايوان واستخدامها كورقة ضغط تهدد بها الصين في حالات معينة، ومن أبرز الأمثلة الأخيرة على ذلك هو صراع الرقائق وأشباه الموصلات بين الصين وأمريكا في عام 2022 وفتح ملف مضيق تايوان مجددًا من قبل الإدارة الأمريكية في تلك الأثناء، الجدير بالذكر أن تايوان تنتج أكثر من 90 % من حجم الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات مما يجعلها نقطة صراع مهمة في حالات تأثر سلاسل الإمداد في القطاع التقني.
والثانية مسألة إحلال السلام في شبه الجزيرة الكورية وما شهدته من تقاربات واختلافات على مدى سنين طويلة؛ مما جعل الخبراء السياسيين في الشرق الأقصى يصفون السياسة الأمريكية تجاهها بالغموض الاستراتيجي، وعلى وجه التحديد في فترة المفاوضات الأمريكية - الكورية الشمالية التي شهدت انعقاد قمتين جمعتا الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ-أون بنظيره الأمريكي دونالد ترامب، فالأولى عُقدت بسنغافورة في مارس 2018، والثانية أقيمت بالعاصمة الفيتنامية هانوي في فبراير 2019. ولم ينتج عن هاتين القمتين أي اتفاق يؤدي إلى المطالب المشتركة في إحلال السلام بين الكوريتين. ويعود ذلك إلى أن المتابع عن كثب لهذه المسألة لاحظ منذ انعقاد القمة الأولى بأن الإدارة الأمريكية فرضت شروطًا تعجيزية على فريق كيم جونغ-أون ومن الاستحالة قبول بيونغ يانغ لها.
كما أن السبب الأبرز وراء وصف السياسة الأمريكية تجاه هاتين المسألتين بالغموض الاستراتيجي هو أن مصلحة الولايات المتحدة تتمثل بالحفاظ على تواجدها في منطقة المحيط الهادئ عبر القواعد العسكرية وغيرها من الأدوات الفعالة في هذه المنطقة. مما يتعارض إطلاقاً مع تسوية النزاع في مضيق تايوان وإحلال السلام الدائم بين الكوريتين.
وعند الحديث عن السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط فهي واضحة ومعلومة للعيان من خلال إعطاء واشنطن أولوية قصوى لهذه المنطقة وجعلها الأجندة الأساسية لأي رئيس أمريكي أثناء فترة توليه الرئاسة. حيث إنه بشكل أو بآخر أدى ذلك إلى ظهور تحالفات أمنية وسياسية واقتصادية متميزة مما يعمق من شراكات دول المنطقة مع واشنطن ويجعلها متينة في مختلف الظروف والتحولات السياسية.
على سبيل المثال، فإن الخليج العربي كان أولى المحطات الخارجية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الفترة الرئاسية الحالية إذ استهلها بزيارة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية في مايو الماضي، والتقى سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وأثمرت هذه الزيارة عن توطيد العلاقات الثنائية وإبرام حزمة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم في مجالات واسعة؛ مما يعزز الشراكة الاستراتيجية بين الطرفين من جهة، ويؤكد أهمية الرياض وموقعها الرفيع في النظام الإقليمي والدولي من جهة أخرى.
وأخيرًا فإن السؤال الملح حول مفهوم الغموض الاستراتيجي.. هل الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة التي تنتهجه في سياستها الخارجية أم هي سمة ومطلب أساسي لأي دولة عند تنفيذ أجندتها الخارجية؟. من المؤكد أن هذه السمة تتوافق بشكل أكبر مع تلك القوى التي تمتلك سياسة توسعية؛ مما يحتم عليها المكوث تحت غطاء الغموض الاستراتيجي من أجل تحقيق هذا التوسع ورفع نفوذها بشكل سريع في البيئة الدولية.
وبكل صراحة ليس من الصعب على المتابع المحنك والسياسي البارع تفسير وفهم مآلات هذا الغموض من خلال رصد السلوك التفاعلي لتلك الدولة على الساحة الدولية.
** **
- عبد العزيز بن عليان العنيزان