د. منى بنت سعيد القحطاني
ليست كل الدروس تُخطّ بالقلم على السبورة، ولا كل التجارب تجد مكانًا في صفحات المنهج. فبعض ما نتعلمه في ميدان التعليم يأتي همسًا من نظرات الطلاب، ويتشكل في المواقف العفوية داخل المدرسة، وفي لحظات الصمت التي تسبق الإجابة أو تلي الخطأ.
على امتداد سنوات من العمل في التعليم، تنقلتُ بين أدوار متعددة: من طالبة، إلى معلمة، ثم مشرفة تربوية، فباحثة، وأخيرًا خبيرة في تطوير المناهج. وخلال هذه الرحلة، أدركت أن التعليم ليس مجرد وظيفة نمارسها، بل حياة كاملة تعلّمنا بقدر ما نعلّم، وتصقلنا بقدر ما نحاول أن نوجّه.
الفارق الحقيقي بين من «يشرح درسًا» ومن «يبني إنسانًا» لا يُقاس بعدد الخطط أو الأهداف، بل بعمق الأثر الذي يتركه المعلم في النفوس. في هذا المقال، أشارك بعض القناعات التي نضجت داخليًا، لا تنظيرًا، بل تجربة، وأؤمن أنها تمسّ قلب كل معلم عاش التعليم رسالة ورافقه شغف لا ينطفئ.
الرسائل الصامتة: المعلم يُدرّس حتى بصمته
الطالب يقرأ تعبيرات وجه المعلم قبل كلماته. ووفق نظرية الاتصال غير اللفظي، أكثر من 60 % من الرسائل في الصف تُنقل عبر نبرة الصوت، لغة الجسد، النظرات، وطريقة الوقوف. هذه «الرسائل الخفية» تؤثر على دافعية الطالب وانتمائه.
العلاقة قبل المنهج: الأمان يسبق الفهم
لا يتعلم الطالب من شخص لا يشعر نحوه بالأمان. وفق هرم ماسلو للاحتياجات، شعور الطالب بالأمان والانتماء يسبق النشاط المعرفي. العلاقة الإنسانية التي تمنح الطالب شعورًا بأنه «مرئي» ومقبول تُشكل أساس التعلم النشط. وتؤكد نظريات فيجوتسكي أن التفاعل الإنساني هو أصل بناء المفاهيم.
الثقة أولًا: «أنا أراك، وأنا أؤمن بك»
الثقة ليست مكافأة، بل حق تربوي. يؤكد تأثير بيغماليون أن توقع المعلم الأفضل من الطالب يرفع أداءه فعليًا. الثقة تعزز الكفاءة الذاتية، وهي الركيزة النفسية التي تقوم عليها التجربة والمحاولة. تجعل الطالب يرى ذاته من خلال «عدسة مشجعة»، لا ناقدة فقط.
قوة التحفيز: الكلمة الطيبة تسبق التقييم
التحفيز لا يحتاج جهدًا كبيرًا، بل ملاحظة صادقة. وفق نظرية Deci الجزيرة Ryan تنمو الدافعية الداخلية بالشعور بالكفاءة، الحرية، والانتماء. كلمات مثل «أنت تتحسن» و»أعجبني تفكيرك» تُعمّق ارتباط الطالب بالدرس. التحفيز يكمن في الاعتراف بالجهد لا بالثناء العشوائي.
الخطأ معلّم: المساحة الآمنة للغلط نواة الفهم
الطالب الذي لا يخطئ لا يتعلم. الخطأ فرصة لإعادة بناء الفهم، وفق نظرية التعلم البنائي. وتصحيحه بأسلوب داعم يعزز المرونة الفكرية، ويقلل الخوف من المحاولة.
المعلم قدوة: السلوك أقوى من الشرح
أفعال المعلم تُنسخ أكثر من كلماته. تؤكد نظرية التعلم بالملاحظة أن الطلاب يكتسبون السلوك من القدوات. الاعتذار، الإنصاف، والإنصات من المعلم تترك أثرًا تربويًا عميقًا. المعلم الجيد لا يُعلّم الصدق، بل يمارسه.
البيئة الصفية: هيكل النفس قبل العقل
الصف الإيجابي لا يُقاس بالهدوء، بل بالأمان والتفاعل. البيئة التي تشجع على المشاركة، تقبل الخطأ، واحترام الرأي المختلف تزرع الابتكار. حسن إدارتها يحد من السلوكيات السلبية ويعزز النمو الذهني والحرية الفكرية.
الطالب قصة: لا تُدرّس مادة، بل ترافق حكاية
كل طالب يحمل قصة خلف صمته أو محاولته. التعليم المتمركز حول المتعلم يرى فيه إنسانًا كاملاً، لا متلقيًا فقط. خلف كل إجابة خاطئة قصة خوف، وخلف كل سؤال محاولة شجاعة للظهور. عندما نقرأ الطالب كقصة، نتحول من ناقلي معرفة إلى مرافقي رحلة.
ختامًا
لكل من سار في هذا الطريق: أنت لا تُعلّم فقط، بل تُلهم. لا تنقل المعلومة فحسب، بل تُشعل بها شموع الفهم، وتزرع بذور الثقة، وتفتح نوافذ الأمل.
في كل حصة تُقدَّم، وفي كل نظرة طمأنينة، وفي كل لحظة إصغاء... تُبنى حياة، وتتشكّل شخصية، وينهض مستقبل.
في زمن التحول نحو مجتمع معرفي طموح، يصبح التعليم رسالة سامية لا تقتصر على أداء مهني، بل امتداد لرؤية وطنية تُراهن على الإنسان بوصفه ركيزة النهضة.
والمعلم، كان وسيبقى، جوهر هذا التحول القادر على أن يصنع الفرق، ويمنح الأجيال القادمة المفاتيح الأولى للوعي، والطموح، والانتماء.
فامضِ بثقة... فكل يوم تقضيه في التعليم، هو لبنة في بناء وطن، وأثر في عمر إنسان، وذكرى لا تموت.
** **
- خبيرة تربوية في تصميم وتطوير المناهج وطرق التدريس