رقية سليمان الهويريني
لعل تجربة العزلة الإجبارية التي عاشها الناس ومارسوها قبل عدة سنوات إبان الحجر المنزلي الذي أوجبته تداعيات انتشار فيروس كورونا، كانت تجربة فريدة وجديدة على المجتمع السعودي الذي يميل عادة للاجتماعات والزيارات المتبادلة وقد تمخض عنها تقلص اللقاءات والاجتماعات وأصبح هناك ميل نحو العزلة الاختيارية وممارستها نسبيا بين وقت لآخر!
وقد يلجأ بعض الأشخاص للعزلة حين تطغى عليهم الضغوط النفسية وتستبد بهم الهموم، ويضيقون ذرعا بإزعاج الناس والضجر منهم، لما لها من فوائد تعود على النفس بالهدوء والذهن بالصفاء، خصوصا في حالة الجدل وتفشي الخصومات! عندها يمكن أن تحفظ العزلة دين الإنسان وخلقه ونفسه بإبعادها عن المنتقصين لها أو الساخرين منها أو المتطاولين عليها! ومن خلالها يتفرغ المرء للتأمل ومراجعة النفس والتفكير الإيجابي والتخطيط السليم والعمل المثمر وممارسة الرياضة والبعد عن ضوضاء الثرثرة والحوارات الهزلية والنقاشات التافهة فضلا عن تجنب مقابلة الحمقى والثقلاء.
وقد أثنى ابن الجوزي في كتابه (صيد الخاطر) على العزلة فقال «ما أعرف نفعاً كالعزلة عن الخلق خصوصاً للعالم والزاهد فإنك لا تكاد ترى إلاّ شامتاً بنكبة أو حاسداً على نعمة، ومن يأخذ عليك غلطاتك، فقد سلمتُ بالعزلة من كدر غيبة وآفات تصنع، وأحوال المداجاة، وتضييع الوقت).
وحينما تفتقد المجالس والاجتماعات البهجة وتجلب الكآبة، وتسهم في نشر الفضول والثرثرة والإشاعات أو تتسبب بالتجريح، أو جر الإنسان لتفكير القطيع دون تمحيص؛ عندها تطيب العزلة!
برغم أن النقاشات الثرية والحوارات النقية تكسب المرء المعرفة وتبادل الآراء وتلاقح العقول ومداولة التجارب، وتجلب الأنس والسعادة.
والعاقل يسعى لما يعود له بالنفع ويبتعد عما يجرحه لاسيما الشخص الحساس، فيفضل له الابتعاد النسبي عن الناس كيلا يتسببوا له بالألم.
وكذلك العالم أو الباحث الذي يعد وقته ثميناً حيث لا يتمكن من إنهاء أبحاثه وإنجاز أطروحاته وترتيب أفكاره إلا في جو من العزلة والهدوء والسكون وبعيد عن التشويش والاضطراب! فتكون حينئذ العزلة مملكة للأفكار، وفضاء للعقول، ونزهة للأذهان، وفسحة للخواطر وبهجة للنفس.