د. جوليا فؤاد السيد هارون
ليست كل الجرائم تُرتكب في الليل، وليست كل الأيدي المتسخة تحمل سلاحًا.
بعض الجرائم ترتدي بدلة، تتحدث بلغة المال، وتُجيد التسلل عبر الأبواب المفتوحة.
وغسيل الأموال هو إحدى هذه الجرائم؛ جريمة لا تطرق الجدران، بل تُزيّنها.
لا تُخرّب السوق من الخارج، بل تنخر فيه من الداخل... بهدوء، وبتوقيع إلكتروني.
إنه المال القذر، حين يقرّر أن يبدو نظيفًا.
حين يخرج من منبعه المظلم، في نزهة قصيرة داخل السوق النظيف، باحثًا عن شرعية مؤقتة، وعن ملامح جديدة، تشبه المال الحقيقي... لكنها بلا جوهر.
المال الذي يخاف أن يُسأل: «من أين أتيت؟»
ليست الأموال كلها متساوية في ثقلها، ولا في حقيقتها.
هناك مال ناتج عن تعب، يحمل على ظهره تاريخًا واضحًا، وأثرًا نافعًا.
وهناك مال خجول، متوتر، يخشى السؤال الأبسط: «ما أصلك؟»
المال المغسول لا يثق في نفسه.
ينظر حوله باستمرار، يبحث عن غطاء، عن شركة، عن فاتورة، عن شريك لا يسأل.
هو مال لا يريد أن يُعرف، بل فقط أن يُستخدم.
يدخل الأسواق لا ليُثمر، بل ليختبئ.
وحين يصل، لا يأتي كضيف، بل كمُتنكّر.
يُصافح، يستثمر، يُنفق، لكنه لا يُفصح.
ولا يترك خلفه أثرًا إلا بعد فوات الأوان.
حين يصبح السوق ستارًا
غسيل الأموال لا يحتاج إلى حيلة معقدة.
كل ما يحتاجه هو غياب السؤال، وقبول الشكل على حساب الجوهر.
قد يأتي المال القذر في هيئة توسّع تجاري، أو صفقة عقارية، أو حملة إعلانية ضخمة.
لكنه ليس استثمارًا، بل تمويه.
هدفه ليس الربح... بل الشرعية.
والأخطر من كل هذا؟
أن السوق قد يتعامل معه كأنّه مال طبيعي.
يستقبله، يحتفي به، ويغفل عن خلفيته، كما لو كان مجرد رقم جديد في تقرير الأرباح.
غسل رقمي دون ماء.. ودون أسئلة
في الزمن الرقمي، لم تعد الجرائم تحتاج إلى وثائق مزورة.
كل ما تحتاجه: بث مباشر، وهدايا إلكترونية، وبعض التفاعل.
منصات البث المفتوحة تحوّلت إلى ممرات غير مرئية.
أموال تُشترى وتُرسل وتُسحب، تحت غطاء «الدعم»، وباسم «المحتوى».
لكن خلف كل تفاعل قد يختبئ غرضٌ مختلف: تمرير المال، لا دعمه.
لا صراخ، لا إنذار، فقط رموز تومض على الشاشة، وابتسامات أمام الكاميرا.
حين يصبح الصمت مساحة للجريمة
ليست كل الجرائم بحاجة إلى شركاء فاعلين.
بعضها يكفيها صمت الأغلبية.
حين نصمت عن المال الذي لا يُسأل، نمنحه حرية التوغّل.
وحين لا نسأل «من أين؟»، نُسهّل عليه الوصول إلى «أينما يريد».
الصمت هنا لا يُفسّر كاحترام، بل يُستغل كغطاء.
يتحوّل إلى فراغ قانوني، وأخلاقي، وسوقي.
ومع الوقت، لا تبقى الجريمة في الزاوية..
بل تصبح في المركز، على الطاولة، في الشاشة، في الشاشة التالية،
بين ضغطة إعجاب، وسحب أرباح.
في الختام: حين يغسل المال وجهه.. ولا يغسل ماضيه
غسيل الأموال ليس مسألة مالية فقط، بل قصة خيانة خفية لقيم العمل والاستقرار الاقتصادي.
إنه ليس نشاطًا جانبيًا في زاوية السوق، بل خطر ناعم ينساب عبر منافذ غير محصنة، ويترك بصماته على كل شيء: من ثقة الناس إلى ديناميكية السوق.
والمقلق؟ أن المال المغسول لا يختفي من تلقاء نفسه، بل يحتاج من يوقفه، من يشكّك فيه، من يضيء عليه الضوء.
لا يكفي أن نُدير وجوهنا ونقول «ليس من شأني».
فهذا المال لا يعترف بالحدود، ولا يحترم القانون، بل يستغلّ المساحات الرمادية التي نصنعها نحن بسكوتنا.
لذا، فالمعركة ضد غسيل الأموال ليست معركة تقارير ومؤسسات فحسب، بل معركة وعي.
وعيٌ يرفض أن يُخدع بالبريق..
وعيٌ يسأل دومًا:
هل هذا المال له وجه واضح.. أم مجرّد قناع مؤقت؟