د. جمال بن حسن الحربي
تحت هذا العنوان: أسئلة كثيرة تطرح نفسها بإلحاح في فضاء الإعلام المعاصر، من زوايا كليات الاتصال إلى غرف الأخبار ومراكز قياس الرأي، وأبرزها: هل بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يفهم هذا الكائن المعقد المتقلِّب، جمهور الإعلام؟ وهل نستطيع الاعتماد عليه لفهم جمهورنا، خصوصًا في عالم مفتوح مليء بالتناقضات والضجيج؟
هذا السؤال ليس مجرد بحث نظري، بل هو نتاج تجربة يومية في المؤسسات الإعلامية التي تسعى بلا كلل للانفتاح على جمهور متشتت، مُثقل بالخيار، ومتعب من تدفق المعلومات.
الذكاء الاصطناعي لم يعد رفاهية أو ترفاً تقنيًا، بل صار ضرورة مهنية حقيقية. من ينكر هذا، كمن يحاول السير بالبوصلة في عصر الأقمار الصناعية.
لا يمكن أن نُعاقب الجمهور على تغيُّر طبيعته؛ فهو لم يعد متلقيًا صامتًا، بل أصبح شريكًا فاعلاً في صناعة الخطاب الإعلامي، وناقدًا دقيقًا لأساليب التعبير ولغة الرسائل.
لهذا، بات الذكاء الاصطناعي أداة لا غنى عنها لفهم هذا الجمهور المتحول.
تقوم تطبيقات الذكاء الاصطناعي على تحليل البيانات الضخمة، من خلال مراقبة سلوك المستخدمين على الإنترنت، ما يقرأونه، ويشاركونه، ويعلقون عليه، وحتى توقيت تفاعلهم، ليُرسم بذلك ملف شامل عن ميولهم واهتماماتهم.
مثلاً، صحيفة نيويورك تايمز ابتكرت منصة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل تأثير الأخبار على الجمهور. لم تعد تعتمد فقط على عدد المشاهدات، بل توظف تقنية تسمى Project Feels لتحليل مشاعر القارئ عبر تعليقاته، فتتمكن من تعديل المحتوى بما يتوافق مع مزاج جمهورها.
وفي بريطانيا، تطور هيئة الإذاعة البريطانية نظام MyBBC، وهو منصة توصي بالمحتوى حسب سلوك المستخدم واهتماماته، في مزيج يجمع بين الذكاء الاصطناعي والقرار التحريري، مما زاد من تفاعل الجمهور وعمَّق استيعابه للمحتوى.
أما في عالمنا العربي، فتستخدم منصات مثل سكاي نيوز عربية والشرق للأخبار تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل سلوك الجمهور، وتحديد أوقات الذروة، وتخصيص المحتوى وفقًا للفئات العمرية والمناطق الجغرافية.
لكن الذكاء الاصطناعي لا يكتفي بقراءة ما يُقال، بل يقرأ ما لا يُقال. ففي فضاء التواصل الاجتماعي، الصمت في أحيان كثيرة رسالة، والتجاهل مؤشر، وهذا ما تستطيع تقنيات الذكاء الاصطناعي التقاطه وتفسيره بطريقة تتجاوز قدرة البشر.
ومع ذلك، لا يغيب عن بالي أن الفهم الحقيقي لا يأتي من الأرقام والمعطيات فقط. فلكل مجتمع خصوصياته الثقافية والاجتماعية، وحتى داخل بلد واحد، قد تختلف تفاعلات جمهور الرياض عن جمهور تبوك أو نجران.
وهنا تبرز تجربتي الشخصية مع الجمهور الباكستاني، أثناء عملي الإعلامي هناك. باكستان جمهور متنوِّع إثنيًا ودينيًا، يولي اهتمامًا كبيرًا للإعلام العربي، ليس فقط كناقل للمعلومة، بل كهوية وانتماء.
استخدمنا أدوات الذكاء الاصطناعي لتحليل المحتوى والتفاعل على منصات التواصل الأردوية، لكننا أدركنا سريعًا أن الأداة وحدها لا تكفي. فقد كان لزامًا أن نربط هذه المعطيات بسياقات محلية وثقافية، كمناسبات دينية أو أحداث سياسية، لفهم كيف ينظر الجمهور لهذه القضايا.
وهذا يوضح أن الذكاء الاصطناعي أداة مهمة، لكنه لا يغني عن الميدان، ولا عن الحس الإنساني والوعي الثقافي.
حتى في تجارب عالمية مثل Netflix، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات المشاهدين، لا تزال القرارات النهائية للمحتوى تخضع لأصابع بشرية تدرك الحس الثقافي والرسالة الاجتماعية.
والأهم من ذلك، تبقى هناك مسؤولية أخلاقية يجب ألا نغفلها: هل نستخدم الذكاء الاصطناعي لفهم الجمهور وخدمته، أم لمحاولة توجيهه وفق أجندات؟ هل نُظهر له ما يريد، أم نُقحمه فيما نريد؟ هنا لا بد من وضع ضوابط واضحة تحمي الجمهور من «التوجيه الخفي».
في السعودية، ونحن في خضم التحول الرقمي ضمن رؤية 2030، تبرز أهمية بناء وعي مؤسسي لا يقتصر على استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة تقنية، بل كأساس لفهم الجمهور الحقيقي، وتحسين محتوى الإعلام الوطني.
فلا يكفي أن نعرف «من هو جمهورنا»، بل يجب أن نعرف «لماذا يهتم»، وما هي القصص التي لم تُرو بعد.
الذكاء الاصطناعي يساعدنا في معرفة «متى وأين وكيف»، لكن «لماذا» يبقى سؤال الإنسان والصحفي.
وفي زمن التكنولوجيا، يبقى التحدي أن نجعل الذكاء الاصطناعي يزيدنا إنسانية، لا أن يبعدنا عنها.