د.عبدالله بن موسى الطاير
تشكل 40 دولة، أو قريباً من ذلك، ما يتعارف عليه باسم الغرب الليبرالي الديموقراطي، وهي تمثل نحو خمس عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، تلك الأقلية تفرض فهمها ومعاييرها لحقوق الإنسان على العالم بأسره. السردية الغربية حول الحريات الفردية والقيم الديموقراطية، تصادر بصلف وجهات نظر الدول والحضارات والأديان والثقافات التي تتبنى آراءً مُختلفة حول الكرامة الإنسانية. النتيجة ليست مجرد صدام مع المبادئ والطبيعة البشرية التي تُقدّرها أغلبية عالمية مُتنوّعة، وإنما عويل وبكائية اعتذارية تتقرب بها الأكثرية إلى الأقلية. حتى ندرك شناعة الحال علينا فقط أن نعرف أن إسرائيل ضمن منظومة الأقلية، وهذا العار لوحده كفيل بنقض الرواية السائدة من أساسها لمن أراد فعل ذلك وعمل من أجله.
للهيمنة الغربية في موضوع حقوق الإنسان تاريخ وخلفيات، فمنذ حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أسهمت تلك القوى، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، في تشكيل مؤسسات عالمية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. كما عكس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948م أولويات ذلك التحالف ومكنّه من فرض فهمه الخاص للحريات المدنية والسياسية على الحقوق الجماعية أو الاجتماعية والاقتصادية المرعية في أماكن أخرى من العالم. المؤسسات الدولية متعددة الأطراف التي يُهيمن عليها التمويل والقيادة الغربية، عملت بدأب على تُرسّيخ المعايير الليبرالية في القانون الدولي، من المعاهدات إلى ولاية المحكمة الجنائية الدولية، وردفت هذا النفوذ بالعامل الاقتصادي، إذ غالبا ما تتطلب الصفقات التجارية والمساعدات الإنسانية والتنموية الامتثال لمعايير حقوق الإنسان الغربية، كما يتضح في الشروط المرتبطة بقروض صندوق النقد الدولي، وقبول تدخلاته في شؤون الدول الداخلية، أو سيكون مصير الآبقين عقوبات جماعية أو أحادية.
من جانب آخر، رسخت القوة الناعمة للغرب الليبرالي من خلال وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية والمنظمات غير الحكومية هذه الهيمنة بشكل أكبر؛ أسهمت وسائل الإعلام العالمية وهوليوود ومنصات الترفيه، ومنظمات مثل العفو الدولية في عولمة هذا الفهم لحقوق الإنسان، ورفض وجهات النظر غير الأخرى باعتبارها نسبية أو استبدادية. هذا الاستبداد يُهمّش على سبيل المثال مواثيق حقوق الإنسان الإسلامية، التي تُؤكّد على الواجبات، والمفاهيم الأفريقية مثل فلسفة (أوبونتو)، التي تُعطي الأولوية للمجتمع.
يرى البعض وأنا منهم، أن عصرنا الحالي يقدم فرصة مواتية لتقديم رواية مقابلة لا تقوم على الاعتذارية والتبرير والدفاع وإنما على أساس الندية التي يكتنزها التنوع الإنساني والحضاري من مفاهيم جديرة بأن تؤخذ في الاعتبار ليس لإلغاء المنظومة القائمة وإنما لمزاحمتها ببديل أو بدائل تنسجم مع اتساع هذا العالم وتنوع مكوناته. مع هذه الفرصة السانحة، فإن تحدي الهيمنة القائمة عمل شاق للغاية. أية رواية تخالف النهج الرائج في مجال حقوق الإنسان ستواجه بحواجز هيكلية في الهيئات متعددة الأطراف، حيث يخنق حق النقض في مجلس الأمن تلك المحاولات في مهدها. كما أن الهيمنة على إنتاج المعرفة، من الجامعات إلى مراكز الفكر، تطغى على الأصوات الخافتة المتطلعة. ويزداد مشهد إنتاج البديل تعقيدا لأن دولا كثيرة تتلقى مساعدات إنسانية وتنموية، وأخرى تعتمد اقتصاديا وعلميا على الدول الصناعية، وهناك قدر من الانقسام الثقافي والجيوسياسي بين دول الجنوب مما يعوق فاعلية إنضاج خطاب رديف في مجال حقوق الإنسان.
أحداث أكتوبر 2023م، عرّت المجتمع الليبرو ديموقراطي، وكشفت على نحو أوضح المعايير المزدوجة في التعاطي مع حقوق الإنسان، وقبلها فعلت الحرب الروسية - الأوكرانية، ومما ساعد في إشاعة الوعي والمعرفة أن التكنولوجيا ووسائل الإعلام وبخاصة شبكات التواصل الاجتماعي أتاحت منصات عابرة للحدود الجيوسياسية والفكرية والثقافية، وسمحت للأكثرية ولبعض المكونات الغربية بتجاوز حراس البوابة التقليديين، مما أظهر انتقادات حادة لانتهاكات حقوق الإنسان في مقابل صمت الدول الراعية لها. هذا الاختراق المحدود يتزامن مع ابتكار القائمين على الخطاب العام الليبرالي أساليب جديدة للمحافظة على هيمنة سرديته، ومن ذلك تقييد وصول المحتوى الناقد للمعايير المزدوجة في تنزيل حقوق الإنسان على الواقع.
الجهود الشعبية الحيوية التي ترفع صوتها عاليا بالاعتراض على الراوية السائدة، والمثقفون والناشطون والدول الوازنة يمكنها تطوير سردية جديدة لحقوق الإنسان قائمة على التقاليد المحلية عبر الجنوب العالمي، والحوار وليس المواجهة، مع الحلفاء الغربيين المتعاطفين، لإضفاء الشرعية على وجهات النظر المغايرة في هذا الشأن. أما مواصلة الاعتذار والتبرير فسوف لن يؤدي إلا إلى المزيد من توحش الفهم الغربي الليبرالي لحقوق الإنسان.